هل حين يدرُس المغاربة بغير اللغة العربية، ستخرج المدرسة من عُنُق الزُّجاجَة، وسننتقل من مجتمع الاستهلاك، إلى مجتمع الإنتاج والإبداع؟ هل مجتمع العلم والمعرفة، هو مجتمع بلغة دون لغة، وأن تكون هذه اللغة، عندنا نحن المغاربة، هي لغة الغريب، لا لغتنا نحن، ربما، لِمَا فيها من خلل وعَطَب وقُصُور وَهَشَاشَة وترَهُّل!؟ الذين يعودون، بِنَا، بين الفينة والأخرى إلى هذا النِّقاش، ويَجُرُّون المدرسة إلى التَّحَدُّث بغير لسانها، إنما يعملون على وضع المدرسة على سكة قطار آخر، ليست هي سكة قطارنا نحن، ولا هي السكة التي ستُفْضِي بنا إلى الخروج من معضلاتنا في ميادين العلوم والمعارف المختلفة، بما في ذلك التقنية. لم نتطوَّر بما يكفي، تخلَّفْنا عن غيرنا، وأخْلَفْنا موعدنا مع كثير من لحظات الصيرورة التي كانت مُتاحَة لنا، لنصير تابعين، خانعين، خاضعين، لا نصنع حتَّى الإبرة التي بها نخيط ثوبنا، لنحمي أوراحنا من نزلات البرد التي يبدو أنها عشَّشَت في نفوسنا، ولم نعد نستطيع العيش بدونها. فهل اللغة العربية، التي هي لغتنا، هي العصا التي تمنع العجلة من السير، وتمنع تطورنا وتقدمنا، إذا كُنَّا لم نحرص على وضع العقل، أوالخيال الذي به تُدارُ اللغة، أو تحيا وتتفتَّق، في سياقه التاريخي، وفي شرطه المعرفي والعلمي، أي باعتباره الشُّحْنَةَ والطَّاقَة التي تَخْتَلِق المفاهيم، والتراكيب، والمفردات، والتعابير، والصور، بما يُسايِر زمننا، وما هو آتٍ من أزمانِ الأجيال القادمة!؟ المشكلة ليست مشكلة لغة، بل هي مشكلة مَنْ لم يُقَدِّروا دور ووظيفة اللغة في تكوين العقل، ودور العقل في خلق اللغة وتجديدها، وإعادة ابتكارها، باعتبارها وسيلة للتعبير عن الفكر والنظر، وعن العقل والخيال، بما قد تَحْفَل به من حيوية وحياة. لا لغة تتجَدَّد، وهي في المدرسة تأتي من الماضي، ومن نصوص ومناهج جافَّة باردة، لا ماء ولا هواء فيها، في مُقابِل لغة جديدة، مُغايِرَة، ترفض المدرسة أن تكون ضمن ما يتلقَّاه التلاميذ والطلبة في المدرسة والجامعة معاً. فتجديد اللغة، إنما يكون بتجديد الفكر الذي نشأ فيها، وبقراءة هذه اللغة في مصادرها ومراجعها التي تمتليء بالإضافة والابتكار، لا أن نضع العربية في صندوق مظلم، ونتساءل عن سبب العَتمَة، ومن أين تأتي. لنفتح الصندوق على الشمس، حتى نرى، بوضوح، ما تكون عليه اللغة، وهي مُفْعَمَة بدِفُءِ الشمس ونورها. وهذا يعود بي إلى حكاية دْيُوجِين الكَلَبِي، الذي كان يُقيمُ في برميل، وهو أحد الفلاسفة الكبار في زمنه، حين وقَفَ القَيْصَر عليه في برمليه رُفْقَة حَرَسِه، يَسْألُه أن يطْلُب ما يُرِيد لِيُحَقِّق له طلبَه، فكان أن خاطَبَه دْيُوجِين قائلاً «تَنَحَّ قليلاً لأنَّكَ حَجَبْتَ عَنِّي الشَّمْسَ». فديوجين، لم يكن يُرِيدُ شيئاً، سوى أن يَنْعَم بدفْءِ الشمس وبنورها، لأنَّ الذين كان يقفون في مقابله، مَنَعُوا عنه هِبَةَ الطبيعة، وهو لا يُريد غير ما له. وهذا هو نفسُه درس الصِّراع حول اللغة العربية التي تُعاني الحرب من أهلها قبل الأغيار، فمرَّة يفتحون لنا صندوق الدَّارِجَة، ويُخْرِجُوا أفاعيه لِيُجَرِّبُوا أُكْلَها، وحين يجدون مُقاوَمَةً ورفْضاً، يفتحون صُندُوق التدريس بالفرنسية ويَسْتَقْوُون بالغريب على ابن الدَّار، وحتَّى حين تخبوا الحرب، ويخْتَفِي غُبارُها، فهم لا يفتأون يبحثون عن الذرائع والأسباب لإشعال هذا الغُبار، وإشهار أسلحتهم التي باتت غير مفيدة في قَهْرِ لغةٍ، حتَّى وهي لا تعمل بما يكفي في الإدارة، وفي العلوم والتقنيات الحديثة، فهي لغة حيَّة مُتجدِّدَة في الشِّعر، وفي الرواية، وفي الفكر، وفي الفن، وفي مجالات العلوم الإنسانية، لأنها لغة تُخْلَق في يَدِ صانعيها ومُبْتَكِرِيها من الكُتَّاب والمُفَكِّرين والمبدعين، وهذه، لعمري هي مفارقة أُمَّة تزْدَرِي لِسانَها، وترى أن لسان الغريب، هو اللسان الذي به ستأكل وتشرب، وهو، في كل الحالات، لسانٌ مُسْتعار.