كنت أعتقد، ومن منطلق المساهمة كصحافي في التفاعل ومحاولة فهم الكلام الكثير الذي يطلقه الأمين العام السابق لحزب العدالة والتنمية يميناً ويساراً، أنه عندما كَتَبْتُ المقال السابق بعنوان "على هامش تصريحات بنكيران الشاردة.. في الحاجة إلى رجالات دولة"، أن السيد عبد الإله بنكيران، رئيس الحكومة السابق، ومن يَعْتَبِرُونَ أنفسهم زعماء ومن ذوي الثقل السياسي، سيحاولون مراجعة مخططاتهم التي لا تخدم إلا مصالحهم الشخصية وأجنداتهم الخاصة وفق منظور حزبي ضيق. لكن يظهر، على ما يبدو، أن السيد بنكيران وأمثاله تنطبق عليهم الآية الكريمة: "وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ…"، سورة البقرة (الآية 206). فقد اتضح جلياً أن خرجته الجديدة (السبت 2 فبراير 2019)، والمتمثلة في ما سَمَّاهَا ندوة صحافية اقتصرت على دعوة بعض الزملاء الصحافيين إلى منزله بحي "الليمون" بالرباط، تُشَكِّلُ – مرة أخرى – إصراراً على مواصلة الظهور "الفايسبوكي" في محاولة لفك العزلة السياسية ومطاردة الشعور بالخوف المتنامي من الإستقرار في دائرة النسيان. وعلى هامش هذه الخرجة الطويلة جدا في حيزها الزمني (حوالي ساعتين ونصف الساعة)، أدعو السيد بنكيران إلى نقاش هادئ بهدف الإسهام في تبيان مدى التناقضات التي أصبح الرجل موضوعها وخاصة في الآونة الأخيرة، حتى أن الأمر يبدو أنه أضحى تخبطاً، وأظهر إلى أيِّ مدى لم يتمالك رئيس حكومتنا السابق أعصابه، وهو الشخصية العمومية التي يُفْتَرَضُ فيها أن ترد على أي نقد موضوعي وبناء دون شخصنة النقاش والتمادي المفرط في لعب دور الضحية، وكأننا أمام "مُقَدَّسٍ" جديد يُحْظَرُ بشكل تام تقديم النصح له أو إبداء ملاحظات بشأن أقواله وتصرفاته. وليسمح لنا السيد بنكيران أن نطرح، هنا، خمس ملاحظات أساسية: – الملاحظة الأولى: كيف أصبح الرجل يدافع عن بعض ما يُسَمِّيهِ مكتسبات شخصية مع أنه، إلى الأمس القريب، كان ينتقد بشراسة ويُعِيبُ بصوت عالٍ على البعض كالسيد حكيم بنشماس (رئيس مجلس المستشارين والأمين العام لحزب الأصالة والمعاصرة) تشدقه بما يدعيه من حصوله على "هبات ملكية"، فكيف يكون الأمر حلالاً طيباً عليه وحراماً مُبِيناً على غيره؟! – الملاحظة الثانية: إن الخلط المتعمد بين صفة رئيس الحكومة السابق وصفة المواطن عبد الإله بنكيران، يطرح إشكالاً حقيقياً في أوساط شرائح واسعة من المجتمع. فحين يَعْتَبِرُ المواطن بنكيران أنه مُسَّ في كبريائه من خلال خوض عموم الناس، وحتى في صفوف جزء من أعضاء حزبه همساً وتلميحاً، في موضوع معاشه الإستثنائي السمين، يَنْتَفِضُ رئيس الحكومة السابق ويُهَدِّدُ ويَتَوَعَّدُ ويُرغِي ويُزْبِدُ مع أنه – كما قلنا في المقال السابق – أن المسؤولين والشخصيات العمومية مطالبون باحترام "واجب التحفظ"، وإن فكروا بكتابة وإصدار "مذكرات"، فيجب أن يكون هاجسهم إثراء المشهد السياسي والإسهام الملموس في رفع مستوى التكوين السياسي لا محاربة طواحين الهواء ك"دون كيشوت" مغربي ظن نفسه في "مهمة مقدسة" لا يقوى على تنفيذها سوى بمفرده. – الملاحظة الثالثة: حين تتم المقارنة بين السيد بنكيران وبين زعماء آخرين، فإن الأمر يبدو وكأنه تبرير لمقولة "إذا عَمَّت هَانَتْ" أو كما يصطلح عليه بالدارجة المغربية "حَطْ رَاسْكْ بين الرْيُوسْ، وعَيَّطْ على قْطَّاعْ الرْيُوسْ". من هو السيد بنكيران حتى يَتَشَبَّهَ بالزعيم الوطني الكبير والعالم المتنور علال الفاسي أو بالأستاذ المناضل الفذ عبد الرحمان اليوسفي، أو بمن لَحِقَهُم من قامات وطنية يعرف رئيس الحكومة السابق قبل غيره ثقلهم السياسي ووزنهم الرمزي. وإذا كان لا بد أن يكون مدافعاً عن نفسه، وهذا حقه المشروع، فليفعل بمنأى عن غيره مِمَّنْ شَهِدَ العدو قبل الصديق على نزاهتهم ومصداقيتهم واحترامهم المبدئي ل"واجب التحفظ". – الملاحظة الرابعة: إن الإمعان في الإستمرار في منطق المؤامرة ولعب دور الضحية، جعل المواطن المغربي يشعر بالملل والنفور والاشمئزاز من تكرار هذه الأسطوانة المشروخة من طرف البعض الذي أصبح يُلَوِّحُ، كلَّما تعلق الأمر بمصالحه الشخصية، باللجوء إلى سلاح التباكي والصراخ واتهام جهات غير معلومة بالوقوف وراء ما يعتبره استهدافاً لشخصه، ولعب دور الضحية مع أنه هو من يأكل الغلة ويَنْعَلُ الملة؟! – الملاحظة الخامسة: لماذا يصر بعض المسؤولين غالباً على التعبير عن حُبِّهِم الشديد للمكانة الإجتماعية والإعتبارية التي كانوا ينعمون بها إِبَّانَ تحملهم للمسؤولية الحكومية، ولا يُطِيقُونَ إطلاقاً الفطام عن "بَزُولَةِ الإمتيازات"، مع أن الملاحظ في تجارب عديدة أن زعماء من الوزن الكبير قادوا دولاً كبرى أصبح لا يُسْمَعُ لهم صوت إلاَّ وهم يدافعون عن مصالح عامة أو عن قضايا إستراتيجية دون تصنع البكاء على ما "حُرِمُوا" منه من دفء الكراسي والمسؤوليات. السيد بنكيران، هؤلاء هم رجالات الدولة الذين كُنَّا نتمنى أن تقتدي بهم، ونراك أنت أيضاً – بدل أن تحاول تصفية حسابات مع جهات وهمية ربما ليست إلا في مخيلتك – تُنَصِّب نفسك للدفاع عن قضايا الوطن الذي تعلم أكثر من غيرك مدى كثرة الأعداء المتربصين به في السر والعلن، وتقود حملة للدفاع عن بلدك ضد من سَوَّلَت له نفسه محاولة النيل من سمعته وصورته… بدلاً من أن تكون أنت سكيناً يَسْتَلُهُ البعض للطعن في البلاد. وعلى هامش هذا التخبط المتزايد الذي يغرق فيه السيد بنكيران، استرعى انتباهي تخبط آخر يمس – وللأسف الشديد – قطاعاً حيوياً هو قطاع الصحة، ومدى اللامبالاة التي تم التعامل بها مع أزمة نرجو من الله عز وجل أن تمر دون خسائر أكبر مما حدث حتى الآن. لقد آلمني جداً تعامل السيد أنس الدكالي، وزير الصحة، مع الأرواح التي أزهقها فيروس إنفلونزا الخنازير (H1 N1)، وكيف كان تعامله بتعالٍ وعجرفةٍ مع الفاجعة، حيث أصبح هَمُّهُ الوحيد هو المقارنة بين عدد ضحايا السنة الفارطة والسنة الحالية من دون مراعاة أن من توفوا ليسوا مجرد أرقام تُحْصَى وتُسَجَّلُ في أرشيف الوزارة. السيد أنس الدكالي، المغاربة يقولون لك بلغة واضحة: "هذا تعامل مرفوض"، على اعتبار أن الأرواح التي أُزهقت كان يمكن إنقاذها لو أن الوزارة التي تَعْلَمُ جيداً، حسب قول الوزير، خطورة هذا النوع من الفيروسات الوبائية، قامت بواجبها كما ينبغي. فهي لم تكلف نفسها بتنظيم حملات تحسيسية إستباقية من شأنها توعية كل المواطنين على صعيد كل تراب الوطن، ولم تُوفر الأدوية الضرورية قبل أن يقع المحظور ونصل إلى الخطوط الحمراء. أليس من العيب أن يُقَالَ – همساً وحباً في التباهي – أن مسؤولاً رفيعاً خضع لعملية جراحية قال للسيد أنس الدكالي: "تْبَارك الله عْلِيكُم"، وكأننا كمغاربة لا نعرف مدى الإزدواجية في التعامل مع المواطنين حسب تصنيفاتهم الإجتماعية ومواقعهم الوظيفية ومكانتهم الإعتبارية. فالمرجو من السيد الوزير أن ينزل من برجه العاجي، ويسأل المواطنين البسطاء عن جودة الخدمات الصحية المقدمة إليهم بدلاً من التشدق والتباهي بما يَعْتَبِرهُ "شهادةً" من مسؤول كبير تَحَوَّلَ من أجله المستشفى العمومي الذي خضع فيه للعملية الجراحية إلى "مصحة من عشر نجوم"؟! فلماذا كل هذا الإستخفاف بذكاء المغاربة وبطيبوبتهم، وعدم تحمل المسؤولية أمام هذا الوضع الخطير الذي يهدد صحة المواطنين في المدن الكبرى كما في أبعد القرى النائية وسط الجبال والهضاب؟! لو كُنَّا في دولةٍ يحترم فيها المسؤولون أنفسهم، لَقَدَّمَ السيد الوزير استقالته بدون أدنى تردد وفي هدوء تام، وحَفَظَ لنفسه ما تبقى من كرامة. للسيد وزير الصحة نقول إن المسؤولية تُمْلِي على صاحبها أن يتعامل مع الملفات الحساسة والحارقة بما يلزم من الجدية والصرامة ونكران الذات، وأن لا يكتفي بالقيام بزيارات بهلوانية أمام عدسات الكاميرات، بحثاً عن إعطاء انطباع مصطنع بأن الأمور تسير بطريقة عادية وكأن الضحايا وأسرهم المكلومة لا ينتمون إلى تربة هذا البلد؟! إن موقف السيد الدكالي يُذَكِّرُنِي بموقف وزير قطاع الصحة العمومية في مصر في فيلم "النوم في العسل" للمبدع عادل إمام الذي أعطى وصفةً سحريةً للمواطنين المصريين من أجل التَّغَلُبِ على وباء انتشر في صفوفهم، وهي وصفة تقتضي الإلتزام بأمرٍ واحدٍ فقط لا غير: النظر في المرآة وترديد عبارة "أَنَا كْوَيِسْ زَيْ البُومْبْ"!!! الوصفة السحرية لعادل إمام تنطبق أيضا على رئيس الحكومة الحالي السيد سعد الدين العثماني الذي قام بزيارة تفقدية، رفقة وزيره في الصحة، للمركز الإستشفائي الجامعي "ابن سينا" بالرباط، ودعا إلى عدم القلق والفزع لأن فيروس إنفلونزا (H1 N1) لا يصيب إلا الفئات الهشة!!! إنها فعلاً الهشاشة الحكومية في أبرز تجلياتها. فمن يحمي المغاربة من فيروس الهشاشة؟ * صحافي