الأوبئة تشبه القدر، لا أحد يعرف متى وأين تظهر، وحين تظهر لا أحد يعرف متى وأين تنتهي ولا كم ستحصد في طريقها من الأرواح. وبعكس الحروب، التي تحصد في طريقها العساكر والأبرياء والجنرالات والجنود، وأيضا الكثير من الأبرياء، فإن الأوبئة لا تحصد غير الأبرياء، وهذا سر قوتها، بل سر وحشيتها. كما أن الحروب التي يمكن أن تنشب في مناطق محدد من العالم قد تسلم منها شعوب كثيرة، وقد يكفي الاختباء الذكي حتى يسلم الناس من الحروب المدمرة، لكن الأوبئة لا تعترف بشيء اسمه الحدود ولا يمكن أن يسلم منها أيا كان حتى لو اختبأ في بطن حوت. هذه سر قوة وشراسة الأوبئة، لو عدنا على تاريخ البشرية لوجدناه مليئا، بل متخما بأوبئة رهيبة، لم تحصد في طريقها المئات أو الآلاف ، بل حصدت بشراسة قل نظيرها أرواح عشرات أو مئات الملايين من البشر. الهلع الذي يعيشه العالم حاليا من فيروس "كورونا" الصيني تجاوز الهلع الذي عاشه العالم مع فيروسات سبقته بقليل، مثل أنفلونزا الطيور أو أنفلونزا الخنازير وإيبولا وغيرها، لكن "كورنا"، الذي حصد حتى الآن مئات الأرواح في الصين على الخصوص، وربما الآلاف، يحتاج إلى وقت طويل لكي يصل إلى قوة أوبئة رهيبة مرت في تاريخ البشرية، وأحد أقسى هذه الأوبئة "الطاعون"، الذي لا يتذكره الناس إلا مقرونا بالشؤم. أقوى وباء عاشته البشرية هو الأنفلونزا الإسبانية، أو الطاعون الإسباني، الذي ابتدأ مباشرة بعد نهاية الحرب العالمية الأولى سنة 1918، حتى نسي الناس بسرعة أهوال الحرب لكي يعيشوا إحدى المراحل الأكثر رهبة في تاريخ البشرية، حيث حصد هذا الوباء ما بين خمسين ومائة مليون روح، أي أضعاف ما حصدته الحرب العالمية وقتها. هذا الطاعون كان أقوى بكثير من الطاعون الأسود للقرن الرابع عشر، الذي قضى على ثلث سكان القارة الأوربية، والذي لا يزال يعتبر الوباء الأقوى في تاريخ البشرية. لكن أوبئة الماضي كانت تنتشر حين كانت البشرية لا تزال تحبوا في مجال الطب والوقاية، أما اليوم فإن البشرية وصلت إلى تحديات علمية غير مسبوقة، وهنا مربض الفرس، أي أن الكائن البشري يظل عاجزا تماما أمام نفسه، فبقدر ما تحدى الإنسان كونه ومحيطه، بقدر ما ظل عاجز عن وقاية نفسه من أمراض تخرج من صميم جسده وكنا نعتقد أنها لن تحدث أبدا. نسأل الله السلم والسلامة..