يعمل القاص "محمد العريشية" على إنتاج نصه الخاص بِجِد، وهو حتى في عمله الروائي (الأيام الأخيرة في علاج) يؤكد هذه الرغبة، أو لنقل حكايته. إذ يعمل على إنتاج حكايته الخاصة، أو منظومته التي يمكنه من خلالها تحريك الحدث والشخوص في الاتجاه الذي يريد، ومراوغتنا. فهو يعتني عناية خاصة بتكوين حكايته –صناعتها-، بتجميع خيوطها من الحوادث المحيطة، وترتيبها، وصناعة نسيجه الخاص بالاعتماد على رصيده المعرفي وما يمكن لهذا الرصيد من قدرة على الشحن والإبهار. المكان ركن مهم، فحتى إن لم يذهب في تفاصيله، فهو يعتمد على رصيد المتلقي المعرفي للمكان –كاسم وجغرافيا-، وما يمكنه من شحن للمخيلة لإنتاج الخلفية الخاصة بالنص، بالتالي ينعكس هذا على الشخوص والحدث. أما الزمن فهو متعلق بالحدث (تابع). وهنا لا يعنينا مقدار الحقيقة بالنص، بقدر ما يهمنا اشتغال المبدع على النص، أو إعادة إنتاجه للحكاية، إذ قد يكون المصدر واحد أو متعدد. في قصته (الطبيب الإيطالي) المنشورة على الشبكة*، لم يخرج "العريشية" عن إخلاصه لنصه، فالمكان المختار هو مدينة (سرت) والزمن فترة الحرب العالمية الثانية، حال دخول القوات الإنجليزية للمدينة باتجاه الغرب (طرابلس). هذان العنصران (المحددان) يعطياننا صورة عن الشكل العام لمسرح الأحدث، والجو المحيط بأحداث القصة التي تُروى على لسان راوٍ غير عليم (القاص)، أو راوٍ ناقل، تاركاً للراوي العليم (العجوز) استدعاء الحدث، الذي يعودُ فيه صبياً. والصبي أقدر بما منح من قدرة، على التقاط التفاصيل، وملاحظة ما حوله بدقة، كما إن روح البراءة تجعلهُ يفكر ويتساءل، مديرة في داخله الكثير من الحوارات، ومستشعراً مصداقية السرائر. الحدث الأساس في القصة، مقتل الطبيب الإيطالي. والحوادث المتصلة مرافقة والد الراوي للطبيب، اعتراض الأهالي وطلبهم رأس الطبيب، كونه إيطالياً، وكل إيطالي غازي للوطن، قتلَ وشردَ الكثير، وهم الآن يسقطون صرعي رصاص الإنجليز دون رحمة (...، هممت بالهرب إلا أن دوي طلقات مدفعية أخذت تلاحق بعضها البعض فاضطررت إلى التشبث بالصخرة، ومن مكان ما ظهر جندي إيطالي لوح بيديه إلى مستوى كتفيه إلا أنه خر ساقطا على وجهه. توقفت الطائرات عن التحليق بينما المدافع لم تكف عن الدّوي.). كان الأهالي ينتقمون من الفلول الإيطالية الهاربة، جزاء ما اقترفته أيديهم من فظائع، إذ أوجد الاحتلال ثقافة تخوين العدو حتى في الجانب الخير منه (سألته: هل حقا أن أدوية الطبيب الايطالي ممزوجة بالسم.. ؟/ حدجني بنظرة صارمة ولم ينبس بكلمة، دفع الباب بيده ودخل، بقيت حائرا، وبدا عليّ شيء من التردد قبل أن أتجه خلفه.). الطبيب الإيطالي الذي كان يعالج الجرحى ويعتني بهم في ساحة القتال، لم يشفع له عمله النبيل عند طلب رأسه (لم يبد أية ردة فعل وبقي لبعض الوقت رافعاً بصره نحو القمر وقال: mi non piace mosolini/ نظرت إليه. ابتسم أبي وقال: إنه لا يحب موسيليني.)، ولم يستطع والد الراوي الوقوف أمام الأهالي وردهم عما عزموا عليه (جاء عدد من رجال القرية يتقدمهم رجل ضخم له ناب بارز من بين شفتيه المضمومتين، ناب طويل لا يملكه أشرس كلب في القرية جلس وقال: جئنا من أجل الايطالي./ نظر إليه أبي وراح يتفحص وجه الرجل قبل أن يقول: لم يكن جنديا أو يحمل سلاحا إنه طبيب مسالم، إنكم تبحثون عن شخص آخر/ هب الرجل واقفا وقال: بل هو بشحمه ولحمه ونحن أحق بقتله من الانجليز./ ثم جلس القرفصاء وأضاف: دعنا نذبحه وسنعطيك صبرا أكثر مما لديك.). في موازاة الحدث يعمد الكاتب إلى إنتاج مجموعة دلالات ضمن نسيج النص. هو لا يجعلها بؤرة الحدث أو مفاصل انتقال في النص، بل ضمن نسيج النص، كما في: علاقة الطبيب الإيطالي بالقمر، الناب البارز للرجل الضخم، علاقة والد الراوي بالطبيب، قدرة الأهالي على طبيب عجوز. إن هذه المنظومة الدلالية (المعرفية) أكثر ما يعول عليه الكاتب في موازاة النص (الإبداع)، في محاولةٍ لمنح النص أكثر من مستوى تلق، يمكن التفاعل معها، ويمكنه من مراوغتنا. "العريشية" يشتغل في هدوء، يبحث في نصه ويمارسه بإخلاص. وهو في حفاظه على شكله العام، إنما يراوغنا عما يحمل النص من دلالات وإشارات معرفية، ويختفي ورائها. إنه يصنع حكايته كما يحاك السجاد، عقدة عقدة، الألوان وتوزيعها هو ما يوجد الأشكال ويمنحه جماليته، ويحدد ثمنه. رامز رمضان النويصري www.ramez-enwesri.com ________________________ * نشرت القصة على موقع (كيكا) الثقافي.