في المسرح، كما في الفنون الأخرى، شاع توظيف الأساطير بنمطين من المقاربات: الأولى، المقاربة الامتثالية، وتتمثل بالنصوص التي كيّفها كتّابها للمسرح من دون أن يحدثوا تغييراً في أحداث النصوص الأسطورية أو شخصياتها أو الرؤى التي تحكمها، بمعنى أنهم أضفوا عليها طابعاً مسرحياً فقط من خلال التقنية، ولم يمسوا نواتها الأساسية، أو بُناها الدلالية. الثانية، المقاربة الإبداعية، وتتمثل بالنصوص التي أعاد فيها كتّابها إنتاج الأساطير، أو قاموا بتأويلها درامياً وفق رؤى معاصرة أحدثت تغييراً في أحداثها، أو شخصياتها، أو نواتها الأساسية، أو منظوراتها، لتتناغم ومشاغل عصرنا الحالي، انطلاقاً من منظومة الأفكار والأيديولوجيات والتصورات التي يحملها هؤلاء الكتّاب. لكن ثمة مقاربة ثالثة لم يعرفها المسرح العربي إلاّ على نطاق ضيق، وتتمثل بالنصوص التي انتزع فيها كتّابها الشخصيات الأسطورية من محاضنها وزرعوها في الحاضر، وافترضوا لها وجوداً ومواقف وأفكاراً متخيلةً، أو وضعوها في فضاءات معاصرة غريبة عليها، وزجوها في صراعات مع شخصيات معاصرة. ولعلي أستطيع أن أصطلح على هذه المقاربة، تجوزاً، بالمقاربة الافتراضية، ومن بواكير نصوصها نص «المهرج» لمحمد الماغوط، وفيه ينتزع رائد قصيدة النثر شخصية صقر قريش من محضنها التاريخي في الأندلس، ويزرعها في الحاضر العربي. على غرار هذا النص المسرحي كُتبت مجموعة نصوص خلال العقود الثلاثة الأخير، منها «هبوط عشتار إلى بغداد» للكاتبة العراقية رشا فاضل. تنتزع الكاتبة، في هذه المسرحية، شخصيتي «تموز» و«عشتار» من قلب الأسطورة، وتضعهما في قلب بغداد المحتلة العام 2004. في المشهد الاستهلالي تتطلع «عشتار» من شرفتها السماوية إلى الأرض، فيصدمها اتساع بحيرة الدماء على أديمها، وتحاور «تموز» حول الأمر، وينتابها القلق لأنهم يهدمون صرحها المدرج.. الجسر الممتد بين الأرض والسماء، وتتساءل عمن يكون هؤلاء الغرباء المدججين بكتل الحديد، فألوانهم لاتشبه ألوان سلالتها، ولغتهم لاتنتمي إلى قاموس شعبها، فيجيبها «تموز» بأنهم الذين أراقوا الخضرة، وحولوا شعبها إلى شقائق نعمان يتناثر فوق الشعاب.. عندئذ تصيح إلهة الخصب والحب بغضب وحزن، وتقرر أن تنزل إلى الأرض لتبارك شعبها من جديد، وترقيه ضد الموت، وتمنحه عشبة الحياة. لكن «تموز» يمسك بيديها ويحاول منعها، محذراً إياها من أن هؤلاء الغرباء سيعلقون فضة جسدها في الساحات العامة. وحين يجدها مصرةً يرافقها في رحلتها. في المشهد الثاني تسير «عشتار» إلى جنب «تموز» في أحد شوارع بغداد: المكان خراب دامس، ورائحة دخان تغطي الفضاء. يحدث انفجار قريب يطيح بهما على الأرض، ويغمرهما بدخان كثيف. أصوات استغاثات تعلو، وعويل أشخاص يركضون بهلع في الأرجاء.. طفلة تبكي وهي تحمل حقيبةً مدرسيةً ممزقةً.. امرأة تنشج وتبكي طفلها.. رجل يبكي بشكل هستيري وهو ينزف. وبينما تندفع «عشتار» إلى مكان الانفجار، الذي تطوقه سيارات الإسعاف والقوات العسكرية، لتبحث عن رفيقات الطفلة، يرتفع صوت الإطلاقات النارية، وتعم الفوضى، وتفقد أثر «تموز»، فتبدأ بالتفتيش عنه بين الوجوه الباكية التي لاتشعر بوجودها، فيخبرها أحد الجرحى بأنهم أخذوه إلى التحقيق. ومن هنا تبدأ المأساة، إذ يتعرض «تموز»، في الفصل الثاني، إلى التعذيب والاستجواب داخل المعتقل، على يد القوات الأميركية، بتهمة الإرهاب: «الأميركي: ماهي المهمة التي جئت لأجلها؟ تموز: أن أحرس عشتار في طريقها إلى الخلود. الأميركي: (بتخابث ) اااه عشيقتك إذن؟ هل هي إرهابية أيضاً جاءت لتفجر نفسها بنا»؟ تظهر «عشتار» في مشهد تالِ مهلهلة الثياب، تسأل الرائح والقادم عن تموز. ثمة من يرميها بنظرات متأسية، وآخرون لايأبهون بها. الكل يمر مسرعاً وكأن أشباحاً تطاردهم. تجلس في إحدى الزوايا. لاتلبث طويلاً حتى يختفي الجميع. تشعر بالإعياء، فتستسلم للنوم. تمر دورية أميركية، يحاول أحدهم إيقاظها وهو يضربها بقدميه.. «الضابط: لماذا أنت هنا؟ ألا تعلمين أنه حظر التجوال؟ (عشتار بصعوبة تفتح عينيها وتنهض، وتتطلع إليهم بفزع وذهول) الضابط: (يتطلع إليها بإعجاب) هل الإرهابيات جميلات بهذا الشكل؟ عشتار: (بصعوبة تحاول الابتعاد عنهم، وبارتباك تقول) كنت أبحث عن تموز.. و.. لكنهم لايدعونها تكمل كلامها، يقيدونها ويجرونها إلى عجلة الهمر، وفي المعتقل تتعرض مثل «تموز» إلى التعذيب والاستجواب بتهمة الإرهاب أيضاً! وفي الفصل الأخير يجر جنديان أميركيان «عشتار»، وهي بثياب ممزقة، ووجهها ينزف دماً، و يرميانها في الزنزانة التي يُعتقل فيها «تموز» عارياً مغطى الرأس بكيس، مثل بعض معتقلي سجن «أبو غريب»، وحين يُرفع عنه الكيس بأمر الضابط يظهر وجهه غارقاً بالدموع والدماء، فتصرخ عشتار بأعلى صوتها وتتجه إليه، لكن الضابط يستوقفها ويمسكها من يديها: «الضابط: لن تعودي إليه بهذه السهولة قبل أن تعترفي بتفاصيل العملية كلها؟ تموز: قلت لك هذه ليست أرضنا، لقد اخطأنا العنوان. عشتار: نعم، هذه ليست أرضنا.. سلالتنا ذهبت.. ماتت.. وحق علينا أن نموت معهم وفاءً لهم، ولحضارتنا العريقة التي ستولد بعد موتنا. هكذا تقول النبوءات..». وبهذه النهاية تمزج رشا فاضل بين فكرة التضحية، التي يشكل «تموز» واحداً من أكبر رموزها في الميثولوجيا، والسخرية المبطنة من تجاهل أحفاده له، وتفريطهم ببلاد سومر. وثمة في بداية المسرحية مفارقات عديدة تصطدم بها «عشتار»، وتسوّغ، من الناحية الدرامية، هذه السخرية، رغم صعوبة القبول بها من الناحية المبدئية. ومن تلك المفارقات، مثلاً، مخاطبة أحد الرجال ل«عشتار» قائلاً: «يا امرأة مازلنا في حزيران، تموز لم يحضر بعد؟ مادخل الشهور بالذي تبحثين عنه»؟، وذلك رداً على سؤالها له: «أين سأجد تموز»؟. وكذلك إجابة أحد الصبية على سؤال «عشتار»: «ألا تعرفون بلاد سومر»؟ بقوله: «في الحقيقة.. سومر.. نعم تذكرت.. إنها أحد أنواع السجائر الرديئة»!! إن نزول «عشتار» إلى العالم السفلي، عالم الموتى في الأسطورة، يتطابق تماماً ونزولها، في هذه المسرحية، إلى بغداد، التي أصبحت عالماً للموتى أيضاً، لكنها تختلف عن ذلك العالم الأسطوري في أنها تقاوم من أجل استعادة الحياة والحرية والخصب. =============== عواد علي/ عمّان كاتب وناقد