النقد الثقافي... إشكالية ومعركة في وقت واحد نحتاج لنعرف ما هي وظيفة النقد الثقافي؟ إذا سمحتم فسؤالك من نوع الأسئلة التي تنطوي أو بالأحرى تتضمن في ذاتها جوابا مفتوحا، ذلك أنه بخصوص النقد الذي سبق النقد الثقافي نادرا ما كان يطرح سؤالا حول وظيفة هذا النقد وإذا ما طرح ففي الأغلب الأعم كان يحتفظ به إلى السؤال الأخير. والظاهر أن النقد الثقافي، وقبل أن أجيب، وبشكل أولي طبعا، هو جماع مناهج ونظريات سابقة وحديثة، ومعنى ذلك أنه ليس انقطاعا جذريا في مسار النقد الغربي. فهو يفيد من الماركسية واللسانيات والأنثروبولوجيا وحفريات المعرفة... ومعنى ذلك أنه أشبه ما يكون بكرنفال أو مهرجان أو قوس قزح. غير أن هذا المزج أو التوليف لا يخلو من "جدة" و"تميز". وتكمن أهميته في كون أنه استطاع أن يرقى بالنص الأدبي إلى النص الثقافي. فالأدب لم يعد مجرد ممارسة نصية محكومة بلوغريتمات وصنافات وخطاطات. صار الأدب قرين نوع من التمثيل وبالتالي مورطا في أسئلة الهوية والأمة والذاكرة والشتات... إلخ. لكن دون التفريط في بعده الجمالي، ذلك أن الأدب لا يمكنه أن ينوب عن العلوم الاجتماعية أو سواها. فوظيفة النقد الثقافي تكمن في هذا السياق أو الورش المفتوح كما يمكن أن نلاحظ. النقد الثقافي مقاربة مستحدثة في المجال المعرفي المغربي... إلى أي حد هذا التصور صحيح؟ أنت تعرف أن النقد بالمغرب، وعلى مدار فترة طويلة، ظل مرتبطا بالجزيرة الفرنسية. وليس من شك في أن هذا الاتباط أفاد كثيرا على مستوى بلورة خطاب نقدي ضمن للمغرب مكانته المحترمة في العالم العربي. غير أن الارتباط بفرنسا بمفردها غير كاف، وخصوصا في مجال التحليل الثقافي والأنثروبولوجيا الثقافية. غير أننا أخذنا منذ التسعينيات نقرأ عن بداية فك الارتباط وبالتالي محاولة الإنصات إلى ما يحدث في اللغة الإنجليزية. وحصل هذا مع نقاد وباحثين شباب وبعضهم يكتب باللغة العربية حتى وإن كان يدرس الآداب الإنجليزية. ولا داعي لاستحضار أسماء كثيرة ونأمل لبعضها أن تضم مقالاتها في كتب مستقلة. ولكن تبقى الملاحظة، هنا، أن هؤلاء لم يخرجوا عن دائرة الإفادة من خطاب ما بعد الاستعمار أو نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي نحو النقد الثقافي الذي لا يزال حضوره شاحبا في الخطاب النقدي بالمغرب. وفي هذا الصدد ينبغي التمييز بين التحليل الثقافي الذي لا نعدم أكثر من محاولة بخصوصه في الفكر المغربي وبين النقد الثقافي الذي ينتظم ضمن أفق قرائي وتصوري آخر بمقدماته وخلاصاته. أي تماس بين التعدد الثقافي للهوية المغربية والنقد الثقافي كتصور؟ نحن نعيش عصر الثقافة والقرن العشرين الذي ودعناه منذ فترة هو قرن الثقافة كما قيل عنه. ومن ناحية الثقافة ذاتها يمكن الحديث داخل المغرب عن نوع من الانفجار الثقافي بسبب من الانفجار الهوياتي وعودة المكبوت وأشياء أخرى. وفي فترة سابقة كانت الثقافة ذات بعد أحادي والدولة أحادية أو يعقوبية. اليوم تغيرت العديد من الأفكار وسواء على مستوى المقاربة المستقلة أو الطرح الرسمي للدولة. صارت الأخبار باللهجات ، وصار المهرجانات تحفل باللغات، ودخل على خط الكتابة أفراد لا ينتمون للمؤسسة الأدبية والفكرية. إن فكرة "المغرب الثقافي" التي كان قد نادي بها البعض وفي مقدمهم الراحل عبد الكبير الخطيبي تبدو الآن أوضح. وأتصور أن النقد الثقافي يفيد كثيرا على مستوى دراسة أشكال التمثيل التي تمتد من اللوحة ولا تنتهي بالنكتة. إجمالا النقد الثقافي إشكالية ومعركة في الوقت ذاته. إدوارد سعيد المفكر الفلسطيني، من موقفكم النقدي إلى أي حد كان مجددا في هذه المعرفة؟ أشكرك جزيل الشكر على هذا السؤال المركب والكبير والإشكالي كذلك. وأولا تجدر الإشارة إلى أن إدوارد سعيد إفراز غربي أو هو نتاج الفكر الغربي في متونه الأصيلة وفي مرجعياته المؤثرة. هذا بافضافة إلى أن الارجل اشتغل على أكثر من جبهة. وفي هذا الصدد أشير إلى أنني اشتغلت على هذا السؤال، وعلى مدار ثلاث سنوات من العمل المتواصل، وقبل شهر فرغت من كتاب في الموضوع نفسه، وسيصدر الكتاب عن دار رؤيا القاهرية التي أفسحت المجال لإعادة ترجمة إدوار سعيد. ثم إن بعض مقالات الكتاب نشرت في مجلة "الكلمة" الإلكترونية التي يشرف عليها الناقد المصري صبري حافظ. ويبقى أن أشير، هنا، إلى أن سعيد ليس من النوع الذي يجتر أو يطبق... فعمله النقدي قائم على الجدل والاعتراض... ودون التغافل عن أسلوبه المخصوص الذي يضاعف من قيمة خطابة النقدي. وكما قال العلامة إحسان عباس فالنقاد العرب مترجمون عدا إدوارد سعيد. أية صيغة استسراتيجية للبعد السياسي لهذا النقد؟ بمعنى آخر إلى أي حد يلزم الحياد والموضوعية؟ مسألة الحياد أو الموضوعية مشكوك في أمرها، وكان الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو قد حسم بخصوص الفكرة عندما أشار إلى أن العلوم الإنسانية ليست موضوعية أو إيديولوجية وإنما هي تقريبية، وعلى افتراض أن هناك مجال للحسم في مثل هذه العلوم. ولذلك فالتحيز وارد شريطة أن يكون محمودا ومقبولا لا أن يكون مقحما وعدائيا. وأتفق معك في كون أن النقد الثقافي لا يخلو من سند سياسي. بل إن أي حديث عن الذاكرة والهوية والسجن والمنفى وغير ذلك من المواضيع يعيد هذا النقد إلى الواجهة السياسية. ولا أخفيك أنني استمتعت بقراءة كتاب الصديق الناقد الثقافي البحريني نادر كاظم "استعمالات الذاكرة" الذي أثار ضجة في البحرين بل ومنع في البداية. وعلى مستوى آخر فالنقد الثقافي يفسح المجال لما يمكن نعته ب"عمل الناقد" الذي هو قرين "أداء المثقف" الذي يسعى للتصدي لأشكال القولبة والمصادرة والتأجيل. وهذا هو المطلوب الارتقاء بالأدب إلى مصاف الخطاب الثقافي الذي يسهم في توجيه التاريخ والإنسان والمجتمع. هذا بالإضافة إلى ما يتيحه هذا النقد من انفتاح على معارف ونظريات أخرى. وشخصيا لا أستسيغ ناقدا لا يستشهد بمقولات وأقوال مستمدة من التاريخ والأنثروبولوجيا والجغرافيا والعلوم السياسية... ودون أن نفرط في الحضور المستقل للعمل النقدي. ................................................................ -يحيى بن الوليد: ناقد وباحث. -تاريخ ومكان الازدياد: 27 فبراير 1967، المغرب. -الشواهد المحصل عليها: دبلوم الدراسات العليا (1998) والدكتوراه (2002)، كلية الآداب العلوم الإنسانية بالرباط. -عضو في اتحاد كتاب المغرب منذ 1999. -الإصدارات: 1 - "التراث والقراءة _ دراسة في الخطاب النقدي عند جابر عصفور"، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 1999. 2 - "الخطاب النقدي المعاصر بالمغرب"، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2004. 3 - "محمد شكري _ سيرة الكتابة والحياة"، (حوار بالاشتراك)، طنجة، 2003 (قيد طبعة ثانية تصدر عن دار رؤية بالقاهرة. 4 - "شعر الرؤية _ مسارات حسن نجمي"، منشورات فرائد، الرباط، 2005. 5 - "الكتابة والهويات القاتلة"، منشورات مؤسسة إدمون عمران المليح، الرباط، 2007 (صدر في طبعة ثانية عن دار الأزمنة، عمان، الأردن). وستصدر له خلال العام القادم، وفي القاهرة وعمان، أربعة كتب نقدية وفكرية