مقاربة نقدية لفيلم "مسخرة" لالياس سالم نضجٌ فنّي، عمقٌ في الطرح.. ورسائل غيرُ بريئة "مسخرة.. فيلم ما يفوتكش". عبارةٌ تطالعك على إحدى صفحات موقع "يوتوب" الشهير. إنها دعوةٌ لمشاهدة الفيلم الجزائري "مسخرة" للمخرج الياس سالم، يبدو أنها لقيت تجاوبا كبيرا، بدليل كمّ التعليقات الواردة في الصفحة ذاتها. الفيلم، الذي عُرض أوّل مرة عام 2008، استطاع أن يصنع الحدث على مدى عامين متتاليين، على الصعيد الجماهيري، كما تجلّى ذلك في الجولة التي قادته إلى عدد من ولايات الجزائر في خريف السنة ذاتها، وعلى صعيد الجوائز؛ حيث حصد أزيد من 15 جائزة في مهرجانات عربية وأجنبية. ليكون أكثر الأفلام تتويجا بالجوائز في تاريخ السينما الجزائرية، وأحد الأفلام القليلة التي جمعت بين حصد الجوائز والنجاح الجماهيري. في هذه الأسطر؛ مقاربةٌ نقدية لا تحاول فقط استكشاف "سرّ" نجاح هذا العمل السينمائي الذي لم يكد يدخل مسابقة إلا وعاد منها بجائزة أو أكثر، وبات "ظاهرة سينمائية" ما زالت تحظى باهتمام عشّاق الفن السابع؛ وإنّما تسلّط الضوء على جوانبه المختلفة وتتلمّس جمالياته الفنية. لغة السينما الأولى يتناول "مسخرة" حكاية رجل يخترع إشاعة خطوبة أخته من رجل فاحش الثراء ليُبعد عنها الشائعات التي طالتها بعد أن كادت تصبح عانسا بسبب إصابتها بمرض غريب يتمثّل في نومها المتكرّر في أي وقت وأيّ مكان. وهي الكذبة التي تجعل منه شخصا مهّما في القرية. وبالموازاة؛ يروي حكاية حبيبها "خليفة" الذي يرفضه أخوها بسبب وضعه المادي والاجتماعي. ومن خلال هذه القصة؛ يلقي الفيلم الضوء على الواقع الذي يعيشه الجزائريون بعد قرابة نصف قرن من الاستقلال، بأسلوب تتنازعه جديّة الدراما وسخرية الكوميديا دون أن تكون الغلبة لأحدهما. إنّها إذن قصّةٌ عادية لموضوع متكرّر.. لكن المثير في هذا الفيلم ليس القصّة في حدّ ذاتها، وإنما طريقة روايتها، والتفاصيل البسيطة الموجودة فيها، عبر التغلغل في نفسيات الشخوص لتنتقل من البساطة والسذاجة إلى العمق الذي يتلمّس هشاشة الذات البشرية. يتجلّى ذلك، مثلا، في مشهد الخلاف بين "منير" وصديقه "خليفة" الذي ينتهي بعد سقوط هذا الأخير من سيارته إلى أسفل ربوة. في هذه اللقطة يتحوّل العداء إلى محبّة، في انتصار لقيم النفس الإيجابية، رغم كلّ ما قد يشوبها من سلبيات. وإن كانت الصورة هي لغة السينما الأولى؛ فإن اشتغال المخرج على الجوانب التقنية والفنية بشكل جادّ وذكي؛ يجعل من هذا الفيلم فضاء خصبا للتأويل السيميولوجي، فضلا عن تحقيقه لدرجة كبيرة من المتعة البصرية، من خلال زوايا التصوير، والاشتغال على الإضاءة، والألوان الدافئة. ويعطي الفيلم وقتا ومساحة للتأمّل البصري، فالتصوير كان في منطقة ساحرة الجمال في الشرق الجزائري، ما يدلّ على وجود نية لإبهار المشاهد وتحقيق متعة بصرية -وهو ما وظّفته، مثلا، الدراما التلفزيونية التركية التي نالت نجاحا كبيرا في العالم العربي. في الفيلم، أيضا، توظيفٌ واشتغال ذكيّ على العناصر الثقافية والاجتماعية، كما يتجلّى ذلك في موسيقى "الشيخ سيدي بيمول" التي تمزج بين القناوي (موسيقى صحراوية) والجاز. يبدو إذن أن الياس سالم راهن بالدرجة الأولى على الجوانب الفنية والتقنية دون إهمال المضمون، متفاديا بذلك أخطاء السينما العربية التي أهملت، إلى حدّ ما، لغة السينما الأولى. واقعية لغوية.. على صعيد اللغة، أو الحوار؛ يوظّف الفيلم ما يمكنُ تسميته "عربية جزائرية".و لعلّ هذا ما يُضفي عليه ميزة إضافية، ويجعله متمايزا عن السواد الأعظم من أفلام السينما الجزائرية التي إمّا توظّف "لغة ثالثة" في محاولة للوصول إلى أكبر قدر من الجمهور داخل الجزائر وخارجها، سيما في محيطها العربي، أو مزيجا من العربية والفرنسية، أو فرنسية شبه خالصة كتلك الأفلام التي قدّمها مخرجون مقيمون في فرنسا. هذا الخيار الذي نلمسه في "مسخرة" يرتكز في الحقيقة على خصوصيّة لغوية جزائرية ذات مصادر متعدّدة. ويبدو أن هذا التوغّل أكثر في الاستخدام الشعبي اليومي أنتج ما يُسمّى ب"الواقعية اللغوية"، فكان الأقدر على ترجمة مشاعر الجزائريين وانفعالاتهم، بشكل عميق، عبر لغة يطغى عليها العنف. ولا شكّ أن هذا العنصر لعب دورا كبيرا في جعل العمل أكثر قربا من وجدان المشاهد، بعد أن نجح في الاقتراب من حواسه، من خلال العناصر التقنية التي بيّناها سابقا. عودة الكوميديا يمثّل "مسخرة" عودة قويّة إلى الكوميديا بعد جفاء كاد يكون طويلا. فالسينما الجزائرية التي واكبت التحوّلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية للمجتمع الجزائري، منذ حرب التحرير وصلت في وقت لاحق إلى مرحلة لم تعد تنتج فيها تقريبا غير " أفلام الأزمة" -في إشارة إلى الأزمة الأمنية التي عصفت بالجزائر لأزيد من عقد- وبرزت في السنوات الأخيرة عديد الأفلام التي تناولت موضوع الإرهاب كفيلمي "رشيدة" ليمينة شويخ، و"المنارة" لبلقاسم حجّاج. لكنّ الكوميديا ليست غريبة عن السينما الجزائرية، بدليل الأعمال الناجحة التي قُدّمت في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، وبروز نجوم كبار كالحاج عبد الرحمان، رويشد، حسن حسني وعثمان عريوات. "مسخرة" ليس عملا كوميديا بأتمّ معنى الكلمة، بيد أنّه يمسك بخيط رفيع من السخرية. ولعلّ اختياره "السخرية السوداء" من حيث كونها تيارا أدبيا، و"كوميديا الموقف" من حيث كونها أسلوبا سينمائيا جعله يروي شغفا سينمائيا جزائريا للكوميدي، بعيدا عن الإسفاف والابتذال. امرأة أُخرى.. مجتمعٌ آخر؟ تطالعنا في "مسخرة" امرأةٌ مغايرة تماما لعديد النماذج التي قدّمتها السينما الجزائرية، وحتّى نظيرتها المغاربية أو العربية. المرأة التي يقدّمها الياس سالم ليست تلك العنصر الضعيف المستعبد، ولا تلك التي تظهر كبهار يؤجّج الجانب العاطفي والوجداني في العمل السينمائي كما هو الحال في معظم الأعمال الرومانسية. كما ينتفي حضورها كجسد تناغما مع واقع المرأة في المجتمعات العربية، أو ربّة بيت تزاوج بإتقان بين حنان الأم وثرثرة النساء. إنها تبدو في هذا العمل قويّة، متحرّرة، منخرطة في المجتمع الذكوري، وإن على استحياء. وعبر هذه الجزئية يبعث الفيلم برسائل قد لا تتناغم مع حقيقة المجتمع الجزائري المحافظ وواقعه، خصوصا في الدعوة إلى إقامة العلاقات الجنسية خارج إطار الزوجية، أو تبريرها. فإن كان مجتمع "مسخرة" تعامل بتسامح ولامبالاة مع هكذا تصرّف؛ فإن ردّة فعل المجتمع الجزائري هي على النقيض تماما من ذلك. ولعلّ لمساهمة كاتبة فرنسية في كتابة سيناريو العمل دورا في بلورة هذه الرؤية. بعيدا عن إصدار أحكام قيمية؛ فإن الفيلم وبمقدار اقترابه من تفاصيل الواقع الجزائري بتناقضاته، لا يحاكي في بعض جزئياته ما هو كائنٌ فعلا على أرض الواقع، بل ما يريد أصحابه أن يكون.. لعلّها نظرة استشرافية، أو الحاسّة السادسة التي يمتلكها الفنّ السابع. علاوة حاجي / إعلامي وناقد جزائري