هاجر الفتى البولندي ميروسلاف كلاوزه إلى ألمانيا ليشتغل في البناء وليساعد أسرته الفقيرة، فقادته موهبته في مداعبة كرة القدم إلى تنصيبه هدافا تاريخيا لكأس العالم وقائدا عظيما، وهرب الصغير شيدران شاكيري من حرب كوسوفو الدموية لاجئا إلى سويسرا فأصبح بعد سنوات نجم منتخب أرض اللجوء ونجما لامعا في أوروبا، وفي المغرب أيضا حكاية ملهمة لنور الدين هليل شاب حالم ترك قريته وركب الأمواج لمراودة حب الطفولة. يقول نجيب محفوظ إن "للمعاناة جانبها من الفرح"، وكذلك كان للشاب نور الدين الذي يبلغ من العمر 33 سنة، سنوات تحتفظ بأيام السقوط والنهوض وذكريات الألم والأمل، يحكي حلوها ومرها "الحراك" الذي أصبح مطلوبا في كبرى أندية إيطاليا.
حب في زمن الفقر
أطلق الطفل نور الدين هليل صرخته الأولى في الحياة بمنطقة أفورار بإقليم أزيلال، وكان ذلك في الأيام الأخيرة لصيف سنة 1984، وما لبث هناك سوى سنة واحدة قبل أن ينتقل والده الملتزم بالخدمة في الجيش إلى مدينة بوعرفة إلى أن بلغ من العمر 19 سنة ثم عادت الأسرة إلى مسقط الرأس.
أسره حب كرة القدم منذ أن تعلم المشي والركض فصار يركلها ويطاردها في سهول أفورار الخضراء، لكن لكل طرف في علاقة حب ما حصة من المعاناة، فقد كان والده يشدد المراقبة عليه ويحرص على تعليمه جيدا حتى لا يجد نفسه بدون عمل في منطقةٍ الفرص فيها منعدمة ولا منجى من العطالة سوى الوظيفة العمومية أو حرفة تهاجر بك إلى المدن الكبرى.
يقول نور الدين هليل: "أنهيت مرحلة الثانوية وتخصصت في التربية البدنية قبل أن أتحول إلى دراسة الميكانيك، وهنا اكتشفت أني أسير في الطريق الذي لا يؤدي بي إلى ما أحب وأريد، فراودتني فكرة الهجرة شأني شأن أقراني بالمنطقة".
كان يرى أن فيما وراء البحر المتوسطي فرصة لتحقيق أحلام الطفولة وضمان مورد مالي يحوّله جزءا منه إلى المغرب لإعالة أسرته، وبحكم أن هذه المنطقة في المغرب اشتهرت بإقبال شبابها على الهجرة، فقد توصل بسهولة إلى رقم هاتفي يقوده إلى "مافيا الهجرة السرية" وهنا كان المنعطف الحاسم في حياة نور الدين.
رحلة الفردوس الأوروبي
اتخذ قراره وعزم على المغامرة وهو في ربيعه العشرين، فتوجه حسب المتفق عليه مع "مافيا الهجرة" جوا من المغرب إلى تونس، وكان ذلك سنة 2006، والخطة تقضي في مرحلتها الأولى أن يتسلم فور وصوله إلى مطار قرطاج جواز سفر ووثائق هوية مزورة يدخل بها إيطاليا.
حطّت الطائرة في مطار قرطاج وكان برفقته مغربيين اثنين، التقوا بالوسيط وقال لهم بعد أن أخذ جواز سفرهم :" إما أن تصلوا إلى أوروبا أو تعودوا إلى عائلاتكم في النعوش".
غادروا المطار صوب فندق في مدينة صفاقس وهناك التقوا بمرشحين آخرين للهجرة فأصبح عددهم 100 شخص"، ويتابع نور الدين حديثه قائلا:" تنقلنا عبر الحافلة في اتجاه الحدود التونسية الليبية لكن شرطة الحدود ولما وصلنا إلى المعبر أوقفتني ورفضت السماح لي بإكمال الرحلة لأنهم رأوا أني ما زلت صغيرا بعد أن اشتبهوا أني في طريق الهجرة السرية".
تسبب توقيف نور الدين في تأخير الرحلة قرابة 45 دقيقة قبل أن يسمحوا له بالذهاب، وحين صعوده إلى الحافلة فوجئ بأصابع العتاب واللوم موجهة إليه لأنه فوت عليهم فرصة الوصول في الوقت المحدد إلى السواحل الليبية لركوب قارب كانت ينتظر وصولهم ويعني هذا أنهم سيضطرون للمكوث في ليبيا 25 يوما لتنظيم رحلة بحرية أخرى.
بعد يومين من الاقصاء والمعاملة السيئة من رفاقه في المغامرة، ستعود العلاقة إلى سابق عهدها بعد أن وصل خبر غرق القارب ومصرع كل من كان على متنه، ما يعني أن مشكلة الحدود التي وقع فيها أنجتهم من الموت.
اختبأت المجموعة المرشحة للهجرة في بيت معدٍّ لهذا الغرض وتزايد عددهم يوما بعد يوم إلى أن أصبحوا 92 شخصا، قضوا داخله شهرا كاملا دون أن يخرجوا منه وكأنهم في سجن حقيقي، دَبَّ الرعب شيئا فشيئا إلى الشاب نور الدين وأصبح يفكر جديا في وضع حد لمغامرته والعودة إلى حضن العائلة.
ندم ندما شديدا وكاد يعود من حيث أتى، لكن المسؤول عن تهجيرهم نجح في إقناعه بالعدول عما كان ينوي فعله ووعده أنه سيعبر به إلى الضفة الأخرى، كما حذره من مساوئ الوقوع في قبضة الأمن الليبي الذي كان في عهد القذافي لا يرحم المهاجرين السريين.
علب السريدن !
وصل موعد الخطوة الفاصلة عن تحقيق حلم الهجرة، ففي اليوم الأول من شهر ماي سنة 2006، تم إخراج المهاجرين وعددهم 92 شخصا، وجدوا في انتظارهم سيارات كبيرة فارغة باستثناء مقعدي السائق ومرافقه، فطُلِب منهم الصعود واحدا واحدا والنوم على البطن حتى امتلأت فطلبوا من المجموعة الثانية ان تصعد على الأولى وتنام أيضا على البطن ثم صعد فوقهم أفراد المجموعة الأخرى إلى أن امتلأت جميع السيارات فيما يشبه علب السردين.
تحت الجبل البشري هذا، كان نور الدين ضمن المجموعة التي في الأسفل ممدا على بطنه، لم يقاوم الثقل الذي يحمله وكان يتنفس بعسر شديد فأغمي عليه ولم يستفق إلا بعد ساعتين؛ وجد نفسه مرميا في صحراء شاسعة ولا أحد بجانبه سوى رفيقه المغربي إسماعيل الذي ترك الجندية وقرر الهجرة.
قال له إسماعيل إن بقية المهاجرين تفرقوا على مجموعات لكل واحدة منها طريق يجب أن تسلكه وإن عليهم اللحاق بمجموعتهم، نهض مرهقا وواصل معه المسير والتحقوا بالبقية فوجدوا أن عددهم ارتفع إلى 150.
الوصول إلى لامبيدوزا
مع بزوغ فجر اليوم الموالي توجهوا إلى الشاطئ وكان عليهم أن يستغلوا نصف ساعة متاحة وهي التي تتم خلالها عملية تبديل أفراد دورية خفر السواحل، أُمِروا بصعود القارب من الأمام لأن في الخلف توجد أربعة محركات تدور مراوحها بسرعة تفرم اللحم البشري في لمح البصر.
موقف مميت سينجو منه مرة أخرى، فعندما همّ بالصعود فقد قائد القارب السيطرة ودار حول نفسه فأمسكه نور الدين من الخلف غافلا عن التحذير من مغبة الاقتراب من المحركات، وهنا سيتدخل إسماعيل مجددا مضطرا إلى لكمه بقوة ليسقطه في المياه ويبعده عن الخطر، وكانت هذه اللكمة سر نجاته من الموت.
تفطّن خفر السواحل لأمر القارب فطاردهم بوابل من الرصاص حتى تمكن من توقيف عدد منهم لكن البقية ومعهم رفيقنا في هذا السفر، نور الدين هليل، تمكنوا من الإبحار في عرض البحر غير أنهم بقوا تائهين لأكثر من يومين دون مأكل ومشرب وبدأوا يسقطون تباعا فمات منهم 27 شخصا.
الوضع سيتطور إلى أسوأ بعد أن غمرت المياه جانبا من القارب وظلّ يمخر المياه بصعوبة بالغة على جانب واحد إلى أن رصدتهم البحرية الإيطالية وأنقذتهم من الموت غرقا ونقلتهم إلى جزيرة لامبيدوزا.
لا تعيدوني إلى المغرب !
تم وضع المهاجرين في مركز إيواء بمدينة "كروتون" جنوبإيطاليا استعدادا لإتمام إجراءات ترحيلهم إلى بلدانهم، قضوا فيه 3 أيام قبل أن يقدموا على عملية فرار جماعي، ويقول نور الدين: "في الحقيقة لم نهرب بل هم من فتحوا لنا الباب للهروب حتى لا يتم ترحيلنا".
تبخرت الأحلام الوردية لنور الدين عند وصوله إلى إيطاليا، فقد وجد نفسه وحيدا دون عائلة تدعمه وتسنده نفسيا، بعد أن أوصدت في وجهه أبواب أفراد من عائلته يقيمون في هذا البلد الأوروبي، كلما اتصل بأحدهم لمساعدته إلا وتهرّب واختلق عذراً.
عاش لحظات مريرة وأشهرا قاسية في كل أيامها، حتى إنه توجه ذات يوم إلى مركز الشرطة وسلّم نفسه. أصبح متشردا إذن لا بيت ولا ملبس ولا مصدر دخل يقيه شر التسكع في شوارع الأجانب.
نام لأيام في الشارع والجو يرشح بردا حيث تنخفض الحرارة إلى 15 درجة تحت الصفر، خارت قواه ولم يقو جسده على المقاومة فسقط مغشيا عليه وتم إنقاذه في المستشفى.
القدر
قاده قدره إلى مدينة مورتارا، وهناك عاد ليداعب كرة القدم من جديد وانضم لفريق المهاجرين المغاربة، فكوّن صداقات أخرجته من عزلته التي دامت أشهر.
يحكي نور الدين عن الحدث الفارق الذي غير مسار قصته وحوّل مقامه هناك إلى أفضل، "شاركنا في دوري محلي، وحين طلب مني المشرف على التنظيم ويدعى رودولفو فريكاتو، الاطّلاع على جواز سفري، سلّمته إياه ولما فتحه أمعن النظر في الصورة ثم حول بصره ليمعن في وجهي، وكررها أكثر من مرة، حتى إنني اعتقدت أنه رجل أمن".
واصل الرجل الإيطالي مراقبته، ورغم إقصاء فريق نور الدين من الدوري، اتصل به ودعاه إلى الحضور لمتابعة باقي المباريات بمعيته، وبعد المباراة النهائية استضافه على مائدة العشاء، "حين دخلت بيته فاجأتني زوجته بعناق حار وهي تذرف الدموع"، يقول نور الدين.
استبدت به الحيرة ولم يدرك ما يحدث داخل هذا المنزل، قبل أن تقع عيناه على صور معلقة في الحائط اعتقد للوهلة الأولى أنها صوره الشخصية، وفي هذه اللحظة اكتشف أنه شبيه طبق الأصل لابن "رودولفو فريكاتو" وقد فارق الحياة، وهنا سيغلق نور الدين باب المعاناة وتتحول حياته إلى أفضل.
نجاح من رحم المعاناة
وضع رودولفو فريكاتو المهاجر المغربي نور الدين هليل في مقام الابن، وساعده في كل جوانب حياته في بلاد الغربة، ضمّه إلى فريق "مورتارا" الذي يمارس في دوري الهواة، فتألّق معه وحاز على عدد من الجوائز، قبل أن يقرر الاعتزال في وقت مبكر لصعوبة التوفيق بين اللعبة والعمل.
رودولفو الذين يشغل مهمة رئيس فريق "مورتارا"، آمن بموهبة نور الدين وعرض عليه أن يدخل مجال مدربي كرة القدم، وهو الوحيد أيضا الذي يعرف أنه مهاجر غير شرعي وهو سر لم يفصح به لأحد غيره.
درّب نور الدين هليل الفئات الصغرى للفريق ونال عملُه الاعجاب والثناء، وانتظم في الحضور لدورات تكوينية مع أندية يوفنتوس إنتر ميلان وجينوفا وسامبدوريا وساسولو، واجه عائق اللغة وأوراق الإقامة وضعف مصادر الدخل المادي، حتى إنه كان يتحمل سخرية زملائه في التكوين حين يخطئ في النطق وكان يقطع الكيلومترات على قدميه لحضور الدروس.
سنة 2010 حصل على أول رخصة تدريبية من الاتحاد الإيطالي لكرة القدم، اشتغل بها لمدة سنتين وفي الآن ذاته كان يشتغل "عاملا منزليا" لدى مقيم مغربي، هذا الأخير ساعده في الحصول على الإقامة سنة 2012.
بعد تسوية وضعيته القانونية، فُتِحت أمامه أبواب النجاح، ووقع أول عقد احترافي له سنة 2013 مع اس ميلان، بفضل مدرب ينتمي إلى هذا النادي كان نور الدين من طلبته النجباء خلال الدورات التكوينية التي يشرف عليها، وقضى سنتين في إحدى أعرق قلاع كرة القدم.
تلقى عرضا سنة 2015 من فريق بروفيرتشلي الممارس آنذاك في الدرجة الثانية، وأشرف على تدريب وتكوين فئة أقل من 12 سنة وكانت تجربته ناجحة، حتى إنه سنة 2017 تلقى عرضا للانضمام إلى مركز تكوين شيلسي الإنجليزي لكنه اصطدم برفض القنصلية الإيطالية للعقد الذي أرسله النادي الإنجليزي لكونه لا يحمل جنسية بلد الإقامة.
انتهت تجربته مع بروفيرتشلي سنة 2018، وفي صيف السنة ذاتها توصل بعرض احترافي من نادي طورينو فانتقل إليه لتدريب فئة أقل من 12 سنة وتكوين المدربين المشتغلين في النادي.
نور الدين هليل الذي انطلقت رحلته من نقطة جغرافية منسية في المغرب قطع البحر والبر وعاش التشرد وتجمّد بردا، حصل على دبلوم "UEFA B"، وبات من أهم مكتشفي المواهب في دوري إيطاليا العريق.