تحت هاشتاغ #مقاطعون الذي انتشر كالنار في الهشيم على صفحات التواصل الاجتماعي للمغاربة، انتقلت حملة المقاطعة لثلاث شركات، تعد الأولى في مجالها داخل السوق المغربية، من العالم الافتراضي إلى العالم الواقعي لتقلب معها كل الموازين، ليس فقط في عالم الاقتصاد ولكن في ملعب السياسة، فتبعثرت أوراق وكشفت أخرى، فما الذي يجري في المشهد السياسي؟ وما هي رسائل المقاطعة المطلوب التقاطها بسرعة؟ للوهلة الأولى يبدو أن اختيار المنتجات الاستهلاكية الثلاث كان عشوائيا، ولربما كان أي منتج آخر ليكون ضمن القائمة، بل إن المطالب المرتبطة بهذا النوع من الحملات لا تعدو أن تكون اقتصادية ستنتهي إما بنيل التخفيض المرغوب أو بملل المواطنين وانسحابهم منها، لكن نظرة فاحصة إلى ما نتج عنها لحدود اللحظة تجعل المتتبع يدرك بوضوح أن التفكير في هذه الحملة والمستهدفين منها هو أمر قد يكون قضي بليل، ولم يكن عفويا كما يروج لها، لكنها وجدت مجتمعا مهيأ نفسيا مسبقا لها في ظل ما يرزح تحته من ضغوط متباينة.
فلا يخفي كثيرون أن هذه الحملة أشبه بحرب مفتوحة ضد جهات معينة وما خفي من ملابساتها أعظم بكثير مما يظهر، فمنذ أسبوعها الأول كانت بمثابة الضربة القاضية التي أسقطت "الجوكير" المعول عليه لبعثرة أوراق حزب الإسلاميين وقد وضعت في يديه قبلا مفاتيح السلطة والمال، عندما وجد نفسه مباشرة في مرمى رصاص الغاضبين من "زواج المال بالسلطة".
السياسيون فاشلون
أول شيء أماطت المقاطعة اللثام عنه، أنها أظهرت بشكل جلي أمام تردد الحكومة وخرجاتها الخجولة المتناقضة، فتارة تعلق على الأمر وتارة تنفض يدها منه، أن السياسيين بعيدون كل البعد عن إتقان فن التدبير السياسي للأزمات الطارئة، وأن جل ردود أفعالهم وتصريحاتهم لم تزد الأمور إلا تعقيدا، مما يوضح عجزا حقيقيا في مجال التواصل بين الناخبين والمنتخبين، هذا غير ما كشفته من كون عدد من المؤسسات التي نص عليها دستور 2011 مازالت معطلة إلى اليوم، كمجلس المنافسة الذي صرح رئيس الحكومة السابق عبد الإله ابن كيران بأنه قام بدوره كاملا وفق ما يدخل في اختصاصاته.
من يقف خلف المقاطعة؟
بعد انطلاق حملات مشابهة في نفس التوقيت بالجارتين تونس والجزائر من مواقع التواصل الاجتماعي، أعلن بالمغرب يوم الجمعة 20 أبريل 2018 على صفحات ب"فايسبوك" تملك آلاف المتابعين أهمها "كازا بالفيزا"، "أكادير فلاي"، "مراكش مدينتنا"، أو "وافو"، عن إطلاق حملة لمقاطعة منتوج ما دون تحديده احتجاجا على غلاء الأسعار، وبعد أن تمت مشاركة هذا الإعلان بشكل كبير عادت هذه الصفحات لتعلن في نفس اليوم عن اختيار ثلاث منتوجات دفعة واحدة هي "غازوال إفريقيا"، و"حليب سنطرال"، و"سيدي علي"، وسرعان ما انخرطت فيها قطاعات واسعة من الشعب وجهزت لها شعارات وصور بتعبيرات مختلفة ومبدعة وصدرت أغان تسوق لها. وبررت هذه الصفحات اختيارها لهذه الشركات دون غيرها بكون الحملة في بدايتها على أساس التفكير في منتوجات أخرى في حال نجاحها، وأكدت أن البداية منها نابعة من كونها منتجات يستهلكها غالبية المغاربة. أما عن مقاطعة شركة دون غيرها من كل مجال، فقد اعتبرت أنه خيار بديل للمقاطعة الشاملة، وبالتالي فهو راجع لكونها المتحكمة في السوق وتخفيضها للأسعار خوفا من الكساد سيدفع الشركات الأخرى للسير على منوالها، ولاقت الحملة انتشارا كبيرا على صفحات الفايسبوك الذي يضم أكثر من 15 مليون حساب مغربي.
فهل هذه حقا هي أسباب المقاطعة أم هناك من يقف وراء هذا الانتقاء؟
الإجابة عن هذا السؤال تحتاج للإلمام بعنصرين أساسيين: أولا طبيعة الجهة التي تقف وراءها إن وجدت، وهو على ما يبدو سؤال لا يشغل معظم المنخرطين، لأن السخط على غلاء الأسعار وصل إلى ذروته، ثانيا المتضررون منها، وهو ما تكشفه نتائجها لحد الساعة.
في البداية وجهت أصابع الاتهام للعدالة والتنمية وخاصة أنصار عبد الإله ابن كيران، لكن سرعان ما أخذت التهمة في الأفول بعد أن تبين أن النشطاء المتزعمين لها على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي ينتمون لتيارات متعارضة، وبعد أن نشرت عدد من الصفحات المواكبة للحملة تعليقات لمسؤولين حكوميين ينتمون لحزب الإسلاميين يعارضونها.
فأصبح أكثر ما يخيف في هذه الحملة هو غياب مسؤول عنها، مما يصعب معه التنبؤ بنتائجها، خاصة أن وجود شركة "دانون" الفرنسية ضمن المستهدفين بالمقاطعة يزيد الغموض أكثر، فإن سلمنا بوجود رسالة إلى أصحاب شركة المحروقات والماء المعدني ومن يقف خلفهما مفادها رفض "زواج السلطة بالمال"، فأي رسالة توجه إلى شركة "دانون"؟ هل هي لفرنسا؟ أم للشركات الأجنبية المتحكمة في الاقتصاد المغربي؟ أم أن الأمر حقا مجرد اختيار عفوي لمنتوج مسيطر على السوق لإخضاعه؟
أما في ما يخص الضرر، فلا يخفي متتبعون أن أكبر متضرر من حملة المقاطعة الملياردير عزيز أخنوش ووزير الفلاحة الذي صعد نجمه بسرعة وبطريقة مريبة، وهو نفسه يسير نحو الأفول بشكل أسرع وبطريقة لا تختلف عن التوصيف الأول، فالرجل الذي لعب دورا محوريا في إبعاد عبد الإله ابن كيران في عز قوته من المشهد السياسي عبر البلوكاج الشهير، والذي ركب في ظروف غامضة صهوة جواد حزب الحمامة، يجد نفسه اليوم في مرمى انتقادات المواطنين، الذين يرفضون أكثر من أي وقت مضى زواج المال والسلطة، وهو بالمناسبة الشعار الذي كان أول من أطلقه بن كيران نفسه في الجلسة الافتتاحية لمؤتمر شبيبة حزبه الأخير، عندما انتقى بعناية من التراث الإسلامي قصة إبل عبد الله بن عمر بن الخطاب، ليثبت أن مشكل أخنوش يتمثل في ارتباط سلطة المال بسلطة السياسة، الذي يأذن بخراب الدولة وانفراط عقد المجتمع.
وبرأي العارفين بجغرافيا المشهد السياسي، فإن أخنوش اليوم تلقى ضربة موجعة قد تلغي كل احتمال لعودته قويا من جديد، خصوصا أن سلاح المقاطعة استهدف شركته الرئيسية التي تستحوذ على قطاع المحروقات والتي تتكبد خسائر فادحة، فضلا عن الرسالة التي توصل بها عبر البريد المضمون، والتي يفيد مضمونها أن التمكين له لن يزيد سوى الغضب الشعبي.
ويبقى مثيرا للانتباه، أن أخنوش الذي تتصدر صوره صفحات "الفايسبوك" الداعية للمقاطعة كان حتى وقت قريب نموذجا للسياسي المتفاني في عمله، حتى إنه كان يحظى بالثناء أكثر من غيره من طرف ابن كيران في الحكومة السابقة، ولم تصبح ثروته محط تساؤل أو استغراب إلا بعد صعوده القوي ومساهمته في بعثرة الكثير من أوراق السياسة.
حملة المقاطعة وحراك 20 فبراير
حراك 20 فبراير، الذي انتهى بعد حزمة الإصلاحات التي أطلقها عاهل البلاد، لم يكن أحد قادرا على التنبؤ بالمستوى الذي يمكن أن يصل إليه عند بدايته، خاصة أن الواقفين خلفه كانوا مجهولين، لذلك فإن حملة المقاطعة قد تشبه حراك 2011 في بعض مظاهرها ودينامياتها، فلهذه الحملة دوافع اقتصادية وسياسية واجتماعية مهما بدت ضبابية وغير واضحة المعالم للآن، رغم أنها ظاهريا استهدفت أولا الاقتصاد، ولكن صعوبة الفصل بين رجالات السياسة والمال في البلاد جعلت السياسة تدخل منذ الوهلة الأولى على الخط وتنتقل من الخلفية لتتصدر الواجهة.
وتأتي هذه الحملة في سياق متصل بحملات مشابهة للمقاطعة عبر ربوع العالم العربي، كما جاءت 20 فبراير مشابهة لتحركات مماثلة لها بعد أن تأثرت بها، وتتفاعل جميعها مع الشعارات الرافضة للفساد مع سخط قوي ضد زواج المال والسلطة، تنطلق في الحالتين معا بين صفوف الراغبين في تغيير المشهد العام ولكن صداها يبلغ كل فئات المجتمع، وزاد من قوة تأثيرها ما تراكم لدى المواطن بعد قمع احتجاجات الحسيمة وجرادة وغيرها... بالإضافة إلى البلوكاج السياسي الذي أفرز حكومة تخالف إرادة الناخبين والتضييق شيئا فشيئا على حرية التعبير، وتبني نظام "التعاقد" في الوظيفة العمومية، ولكن أكثر ما يميز هذه المقاطعة عن سواها هو أنها حركة لم تلجأ للخروج للشارع في مظاهرات بغرض تعبئة الجماهير أو التعبير عن مواقفها، بل وجد الشباب الغاضب ضالته في العالم الأزرق.
المشهد السياسي والحزبي اليوم وما كان عليه الوضع قبل 2011
لم يتردد رجل سياسة مجرب وجهت له "الأيام"هذا السؤال في القول إن "الوسط السياسي والحزبي أسوأ مما كان عليه قبل 2011، فقبل حراك 20 فبراير كان المشهد السياسي على علته يعرف دينامية في العموم، من تمظهراتها أن حزب العدالة والتنمية كان في أوجه وقادرا على التعبئة، فضلا عن الزخم الذي كان يتمتع به حزب الأصالة والمعاصرة رغم ولادته غير الطبيعية". المتحدث تابع موضحا: "في تلك الفترة كان الحزبان يتدافعان مع بعضهما البعض، أما اليوم فمن سيواجه من، أو بعبارة أخرى من هو البديل؟".
باختصار، أبانت المقاطعة عن فشل عام في السياسات العمومية وتراجع كبير في أدوار جميع الأحزاب السياسية في المغرب، ليصبح بذلك الوسط السياسي والحزبي أسوأ مما كان عليه قبل 2011، وأمام هذا المشهد السياسي المفرغ، وفي غياب أفق واضح لهذه المقاطعة والمدى الذي قد تبلغه، يبقى أكبر سؤال عن المستقبل يشغل المتابعين هو هل يمكن أن تتطور إلى مقاطعات بعيدة عن المجال الاستهلاكي كمقاطعة الانتخابات؟
قصة المرأة الحامل
السياسي الذي وجهنا له السؤال السابق، والذي يفضل الحديث بعيدا عن الأضواء، لم يجد خير مثال عن توصيف المشهد السياسي في بلادنا سوى "قصة المرأة الحامل"، يقول متنها إن زوجين اتفقا على الإنجاب، فلما أصبحت الزوجة حاملا كانا يفضلان أن يكون الجنين أحد الجنسين، لكن عندما أصبح الحمل في الأشهر التي تتيح معرفة الطبيب هوية الجنين إن كان ذكرا أو أنثى، وجدا أن الله منحهما عكس ما تمنياه، فما كان منهما إلا أن طلبا من الطبيب أن يغير بأي الطرق جنس الجنين، من خلال استعمال كل ما توصل إليه العلم، فانطلقت عملية حقن المرأة الحامل بحقن خاصة وتناولها لأدوية مختلفة، فكانت النتيجة حدوث مضاعفات غير محمودة جعلت حياة الحامل كما الجنين في خطر، والخوف كل الخوف من أن تلقى الأم حتفها".
في القصة عناوين كثيرة، أهمها أن عرقلة المسار الطبيعي لا تنتج سوى المشاكل.