يوم بيوم نور الدين مفتاح يكتب: لم آمر بها ولم تَسُؤْني نور الدين مفتاح نشر في 10 أبريل 2025 الساعة 12 و 15 دقيقة ساعة وخمسة وأربعون دقيقة تقريبا من الطيران تفصل بين مطارين ومدينتين مغربيتين، أو لنقل عاصمتين، العاصمة الاقتصادية للمملكة الدارالبيضاء وعاصمة الأقاليم الجنوبية العيون. كل شيء في هذه المدينة الجنوبية يتحرك، إنها دائما ورش مفتوح، أو على الأقل منذ أن بدأت أتردد عليها قبل عشر سنوات، فهي باستمرار تستكمل شيئا ما، والذين سبق أن زاروها قبل نصف قرن إبان المسيرة الخضراء كالقيدومين السي محمد البريني أو السي الصديق معنينو أو السي محمد برادة كانوا أكثر دهشة وانبهارا، بحيث أنهم يحكون ونحن ذات يوم في شوارعها الرئيسية، كل بلمسته، كيف تحول مركز صحراوي شبه مقفر على عهد الاستعمار الإسباني إلى مدينة هي اليوم كبرى حواضر الصحراء المغربية. نور الدين مفتاح [email protected]
ساعة وخمسة وأربعون دقيقة تقريبا من الطيران تفصل بين مطارين ومدينتين مغربيتين، أو لنقل عاصمتين، العاصمة الاقتصادية للمملكة الدارالبيضاء وعاصمة الأقاليم الجنوبية العيون. كل شيء في هذه المدينة الجنوبية يتحرك، إنها دائما ورش مفتوح، أو على الأقل منذ أن بدأت أتردد عليها قبل عشر سنوات، فهي باستمرار تستكمل شيئا ما، والذين سبق أن زاروها قبل نصف قرن إبان المسيرة الخضراء كالقيدومين السي محمد البريني أو السي الصديق معنينو أو السي محمد برادة كانوا أكثر دهشة وانبهارا، بحيث أنهم يحكون ونحن ذات يوم في شوارعها الرئيسية، كل بلمسته، كيف تحول مركز صحراوي شبه مقفر على عهد الاستعمار الإسباني إلى مدينة هي اليوم كبرى حواضر الصحراء المغربية.
كل شيء طبيعي، مغربي، حساني، صحراوي متمدن، ولكن الذي ظل يثيرني في كل زيارة للعيون هو أنني حين أنزل للفطور في فندق المسيرة، أجد رجالا ونساء من جنسيات مختلفة بزي عسكري في المطعم، وأحيانا تكون سيارات الأممالمتحدة مركونة في المدخل الرئيسي، وهذا كان يغمرني بأحاسيس يصعب علي في كل حين أن أترجمها إلى كلمات منصفة أو مُخلِّصة: هؤلاء هم جزء من بعثة «المينورسو» في الصحراء. هؤلاء يذكرونك بأن هناك نزاعا، هؤلاء قد لا يوقظون في الأهالي هنا أي إحساس لأنهم تعودوا عليهم منذ 1991 ولكن الزائر المهتم قد تقلَّب عليه المواجع.
لقد كان بالإمكان أن يخرج الاستعمار من هذا الجنوب بعد المسيرة الخضراء وينتهي إلى ما انتهى إليه الحال في سيدي إفني وطرفاية، ويطوى الملف نهائيا لولا إشعال الجزائر عن طريق البوليساريو لحرب ضروس حافظت فيها القوات المسلحة الملكية ببسالة على هذا الجزء من التراب الوطني طيلة 16 سنة، قبل أن يوقع اتفاق وقف إطلاق النار برعاية الأممالمتحدة وتدخل بعثة المينورسو إلى الإقليم.
إن العاطفة الصادقة لا تحل المشاكل السياسية المعقدة، ونحن لا ننكر أن قضية الصحراء المغربية هي واحدة من أعقد الملفات المطروحة اليوم على المنتظم الأممي. وحتى إذا بدأنا باسم هذه البعثة التي نخصص لها غلاف هذا العدد، فإننا سنجده متجاوزا جدا. فال «مينورسو» تعني حرفيا «بعثة الأممالمتحدة لتنظيم الاستفتاء في الصحراء الغربية».
وإذا كان مصطلح «الصحراء الغربية» توصيف جغرافي وليس سياسيا يقابله مثلا مصطلح «الصحراء الشرقية» (التي قدمتها فرنسا هدية للجزائر مقتطعة من التراب المغربي) فإن تنظيم الاستفتاء كان حلا وافق عليه المغرب قبل إنشاء المينورسو بعشر سنوات خلال مشاركة الراحل الحسن الثاني في مؤتمر منظمة الوحدة الإفريقية بنيروبي، وخاضت المملكة في مساطر تنظيم هذا الاستحقاق وتعاونت مع الأممالمتحدة وعينت ممثليها في اللجان المكلفة بتحديد هوية الكتلة الناخبة، إلا أن الطعون التي لم تكن تنتهي حالت دون الاتفاق على من سيشارك في هذا الاستفتاء. ولنا أن نتصور كيف أن الأممالمتحدة التي لم تنجح لحد الآن حتى في إحصاء سكان مخيمات تيندوف رغم محاولاتها الحثيثة فما بالك بتنظيم استفتاء كشكل من أشكال تقرير المصير.
ومن هذا المنطلق، اقتنعت الأممالمتحدة منذ ولاية الأمين العام الأسبق كوفي عنان بعقم هذا المشروع، وتوج ذلك بتقديم المغرب سنة 2007 لمقترح مشروع حكم ذاتي للصحراء، تكون فيه للأقاليم الجنوبية حكومة وبرلمان، وتكون السيادة للمملكة. وقد ترك المشروع الباب مفتوحا لمناقشة التفاصيل الدقيقة لهذا الشكل من التدبير، ومنذ ذلك الحين وقرارات مجلس الأمن الدولي لا تتحدث إلا عن الحل السياسي المتوافق عليه، الواقعي والقابل للتنفيذ.
وهنا وقعت المشكلة، إذ أصبحت الأممالمتحدة من خلال مجلس الأمن في واد والأداة التنفيذية في الميدان في واد آخر. بل إن «المينورسو» أمست إسما على غير مسمى، أو تحمل إسما تجاوزته الأممالمتحدة نفسها. وبذلك ظلت تقوم بمهام المراقب لوقف إطلاق النار وتزويد الأمين العام للأمم المتحدة بالجزء الميداني من تقريره السنوي حول القضية.
حاولت الجزائر منذ طرح المغرب لمقترح الحكم الذاتي أن تفتح جبهات أخرى، ومنها الترويج لتوسيع صلاحيات المينورسو لتشمل مراقبة حقوق الإنسان، وكانت هذه قضية سياسية بالطبع أكثر منها حقوقية. لقد أرادوا تحويل البعثة من «شاهد» إلى «قاض». والغريب أن الولاياتالمتحدة وهي حاملة القلم في مجلس الأمن قدمت في 2013 على عهد باراك أوباما مشروع قرار لتوسيع صلاحيات المينورسو مما جعل المغرب يتصدى له بصرامة ويلغي تلك السنة المناورات العسكرية المشتركة «الأسد الإفريقي» مع أمريكا.
ولكن الأزمة الأكبر جاءت ثلاث سنوات بعد ذلك عندما خرج الأمين العام الأسبق بان كي مون عن الحياد واعتبر وهو يزور مخيمات تيندوف أن «الصحراء أرض محتلة» مع أن أدبيات الأممالمتحدة تتحدث عن «إدارة» في الصحراء وليس «احتلال».
كانت لهذا الانزلاق آثار مباشرة على المينورسو، حيث طرد المغرب 84 من موظفيها المدنيين من ضمن 300 تقريبا من عناصر البعثة مع وقف مساهمته المالية الطوعية المقدرة ب 3 ملايير سنويا. ولكن ما لبثت الأمور أن عادت إلى طبيعتها دون أن يلوح بصيص أمل في الحل الجذري لهذا المشكل المعمر لخمسة عقود.
المشكلة الثانية بعد الاستفتاء في قضية المينورسو هي مراقبة وقف إطلاق النار. ونحن نعرف أنه منذ تحرير القوات المسلحة الملكية لمعبر الكركرات سنة 2020 قررت جبهة البوليساريو تمزيق اتفاق وقف إطلاق النار علانية، وعادت لإعلان الحرب على المغرب. وبغض النظر عن مبالغات بلاغات الجبهة والتلفزيون الجزائري في تصوير حرب ضروس دائرة في رمال الصحراء، فإن تقارير الأمين العام للأمم المتحدة تشير سنويا إلى بعض العمليات المتفرقة على طول الجدار المغربي وردود القوات المسلحة عليها. ولا تهمنا هنا هذه الحرب التي لا تزن فيها البوليساريو مثقالا يعتبر، بل الذي يهمنا حقيقة هو أن وقف إطلاق النار قد انتهى بمبادرة من طرف واحد وهذا سحب البساط من جدوى وجود المينورسو أصلا.
أحد الأسئلة الحساسة الآن هو: هل الحديث عن جدوى المينورسو يعني مباشرة استهداف الأممالمتحدة؟ أنا لا أعتقد ذلك. فال «مينورسو» آلية لشكل من الحل انتهى إلى غير رجعة. والحل السياسي المتوافق عليه لا يحتاج إلى شرطة أممية بل إلى إرادة الأطراف الصادقة في إنهاء النزاع بشكل واقعي، والواقعية تعني أن المملكة مستعدة لتقديم حتى التنازلات المرّة ولكن سيناريو التفريط في جزء من ترابها الوطني هو شيء من أساطير الأولين.
المينورسو تكلف سنويا 60 مليار تقريبا تساهم فيها الولاياتالمتحدةوفرنسا بحوالي 40% وهاتان الدولتان معترفتان اليوم بالسيادة المغربية على الصحراء، أوليس هذا الواقع مثيرا للاستغراب!! لكل هذا، أو لجانب منه، خرجت اليوم أصوات في الولاياتالمتحدة -كما سنقرأ في غلاف هذا العدد- تدعو إلى إنهاء بعض بعثات حفظ السلام التي يصفونها ب «الفاشلة»، حيث يقول مايكل روبن عضو معهد المشاريع الأمريكية: اليوم تعترف الولاياتالمتحدةالأمريكية بسيادة المغرب على الصحراء، وبالتالي فإن استمرار تمويل منظمة تعيق حليفا مهما يعد خيانة لهذا الشريك الذي يدعم أمريكا باستمرار».
وفي نفس الاتجاه، يذهب الأكاديمي أوجين كونتروفيتش في مقال له ب «وول ستريت جورنال» حيث يقول: «بعثة الأممالمتحدة للاستفتاء في الصحراء لم تعد لها فائدة بعد اعتراف الولاياتالمتحدةالأمريكية بالسيادة المغربية».
إنه طرح منطقي، مع أن المغرب لا يمكنه كطرف أن يبادر هو إلى سحب الثقة من المينورسو. إذ يجب أن يكون القرار من مجلس الأمن، وآنذاك يمكن أن تقول المملكة «إنني لم آمر بها ولم تسؤني».
وفي المحصلة، الأممالمتحدة ليست إلا واسطة خير، أما الفاعل الرئيسي فهو جارنا الشرقي الذي نطلب له بمناسبة هذا العيد السعيد الشفاء العاجل من داء التصلب السياسي والوسواس القهري الإقليمي والبارانويا الجيوسياسية. آمين. وكل عيد وكل القراء الأعزاء بألف خير.