فجأة اكتشف المغاربة سلاح المقاطعة، كشكل احتجاجي سلمي للتعبير عن ضغط اجتماعي كان أولى نتائج إلغاء دعم مواد معينة من طرف صندوق المقاصة الذي اتخذته حكومة عبد الإله ابن كيران، وجرب نشطاء وسائل التواصل الاجتماعي المقاطعة كأداة مدنية للتعبير عن عدم الرضا على السياسات العمومية. بدأت الدعوة عبر صفحتين على الفايسبوك، ثم اتسع مجال النشاط ليصيب بالعدوى مرتادي وسائط الاتصال الجماهيري، كان الأمر أشبه ببقعة الزيت التي تتسع رقعتها بشكل مذهل، ثم بدأت تبرز دعوات أكثر راديكالية للخروج إلى الشارع للاحتجاج، فيما دعوات أخرى تدعو إلى توسيع المواد المشمولة بالمقاطعة، وبدأت التساؤلات ترتفع من هنا وهناك، حول هوية الداعين إلى المقاطعة والمستثمرين لها سياسيا. الورقة التالية هي محاولة لفهم ما يجري مع سياق المقاطعة التي شغلت المغاربة هذه الأيام، وانقسم المواطنون بصددها.
المقاطعة أداة للتأثير والمشاركة السياسية
يعتبر الاحتجاج عُملة السياسة، إنه أحد الأوجه الأساسية التي تمرس عليها المغاربة منذ بداية التسعينيات، وظل الاحتجاج أداة للتعبير عن عدم الرضا، وفي ذات الآن يولد إحساسا عاما لدى المواطنين المحتجين بقدرتهم على المشاركة السياسية وعلى تعبئة الرأي العام والتأثير في صناع القرار بالمملكة !
لكن المقاطعة، يقول مختص في دور الحركات الاحتجاجية، تعتبر سابقة في الألفية الثالثة، تذكر بمقاطعة المغاربة للسلع الأجنبية كشكل من أشكال المقاومة زمن الاستعمار، حيث إن المتضررين اجتماعيا استثمروا إلى أبعد مدى وسائط الاتصال الجماهيري في التعبير عن غضبهم، ووجدوا في المقاطعة كنوع من العمل السياسي غير التقليدي متنفسا، لقد انتقلنا من الحماس الثوري إلى الاحتجاج الذي ظل لفترة طويلة عملا سياسيا متطرفا وكان يبدو كتحدٍّ للشرعية الأساسية للمؤسسات الرسمية للدولة، ويواجه بعمق أقوى.. حتى وصلنا إلى المقاطعة كأسلوب راقٍ في الاحتجاج، يخلو من العنف والاحتكاك المادي ومنخفض التكلفة إلى الدرجة الصفر، إنه فعل نضالي مريح وبأقل تكلفة وبأكبر مردودية.
المغاربة يشفون من داء فقدان المناعة الاجتماعية
تبدو المقاطعة التي يجهل حتى الآن من أطلقها، ومن يتحكم في توجيهها، وما هي الغايات التي يراد لها أن تحققها، يتيمة بلا أب، لكن مادام أنها وجدت لها صدى واسعا داخل المجتمع المغربي، وخلخلت الروتين والجمود الذي شل السياسة التقليدية بالمغرب، وزكى بعد النفور واللا ثقة في المؤسسات الرسمية، فمهمة البحث عمن وراءها ليست ما يهمنا هنا، لأن الأمر أشبه بالبحث عن أب لنكتة أو مؤلف لحكاية أو إشاعة غزت المجتمع وتبناها المواطنون وقدمت إشباعا للبعض وإجابات شافية للبعض الآخر، ورأى فيها آخرون حدا أدنى لإبلاغ غضبه لصناع السياسات العمومية.
يصرح مسؤول سياسي وازن رفض الكشف عن نفسه ل "الأيام": منذ نهاية 20 فبراير عام 2011، ودخول معظم القوى السياسية في تجربة المشاركة الحكومية، وانحسار الفعل السياسي في دائرة الوصول إلى السلطة والانقطاع عن الامتدادات التنظيمية للأحزاب "الجماهيرية"، وحصر "نضالها" في الوصول إلى السلطة عبر التوافقات البعيدة عن الدعم الشعبي وتحكم موجهي الرأي العام في كل جزئية، اعتقدنا أن المجتمع المغربي فقد جميع آلياته الدفاعية، وغدا انهزاميا، مشلولا واستسلاميا، لكن المقاطعة اليوم، يضيف ذات المسؤول، أبرزت حيوية الجسد الاجتماعي وقدرته على التفاعل، ثمة مناعة ما في قلب الكيان المجتمعي المغربي، ولا يجب اعتبار اتساعها مهددا للسياسة الديمقراطية ولا للنخبة السياسية، طالما أن مطالبها انحصرت في مقاطعة ثلاثة منتوجات تجسد تمثيلا نموذجيا لما يرفضه المواطن من غلاء المعيشة واستمرار الإضرار بالعيش البسيط لأغلب المواطنين.
المقاطعة لم تخل من إبداع وطرائف
"اليوم نسيت وشربت من سيدي علي، واش دايزة لي المقاطعة ولا نعاودها؟"، "من شرب حليب سنطرال أو ماء سيدي علي فلا جمعة له"، ورضيع يدير وجهه لرضاعة الحليب ويرفض "البيبرون" قائلا: "خليه يحماض"، "اللهم أتاي بايت ولا حليب الشمايت".... هذا مجرد غيض من فيض مما أبدعه الجيل الجديد من المقاطعين، إن الاحتجاج هنا يخلو من العنف ويمتلئ بالسخرية المرة.. إبداع على مستوى الانزياحات اللغوية والصورة والكاريكاتور والفيديو، على مستوى كبير من الذكاء لذاكرة جماعية تمتح من اليوم عبر سخرية عميقة تستخدم المثل والحكي والجمالية في الصورة والتعبير.
للمتضررين من المقاطعة أسئلتهم المشروعة
انصب قرار المقاطعة على ثلاثة مواد أساسية هي ماء سيدي علي، حليب سنطرال، ومحروقات إفريقيا غاز التي تستحوذ على حوالي 60٪ من السوق المغربي، ويؤكد مسؤولون عن الشركات الثلاث أن استهداف منتوجاتهم وراءه أهداف سياسية، وأن المقاطعة الواسعة للمواد الثلاث لها انعكاسات خطيرة على الاقتصاد الوطني، فتراجع الشركات الثلاث عن الإنتاج بسبب الأضرار الناتجة عن المقاطعة، سيجعلها تكف عن تزويد السوق بموادها، وهو ما سيخلق خصاصا فظيعا يصل إلى 60 بالمائة، بالإضافة إلى أن حجم الضرر الاجتماعي بلا حدود، إنه سيؤدي إلى تشريد آلاف الأسر من مستخدمي الشركات المشمولة بقرار المقاطعة، وسينعكس هذا على تقلص العائدات الضريبية للدولة، وهو ما يعني حرمان الميزانية العمومية من عائدات مالية هامة للشركات المتضررة.
إطار في "غاز إفريقيا" تساءل كيف يمكن مقاطعة شركة تقدم المحروقات بأرخص ثمن مما هو معروض في السوق الوطنية؟ كيف تم استهداف شركة تقدم خدمات أحسن من باقي الشركات المنافسة؟ ويعلق: "إنها حملة مسعورة بخلفية سياسية، وتستغل الوضع الاجتماعي الناتج عن قرار الحكومة السابقة برفع اليد عن دعم المحروقات، وهو عمل لا يد "لإفريقيا غاز" فيه، يقول ذات المسؤول.
ذات الموقف عبر عنه ل "الأيام" قسم التواصل بشركة سيدي علي، التي أكد إطار منها أن الشركة لم تزد منذ مدة في ثمن منتوجها، والسعر الذي تعرضه ليس الأغلى في السوق الوطنية، فإذا كان قرار مقاطعة أي منتوج هو قرار حر لكل متضرر، فإن الشركة تتساءل عن السبب في استثناء شركات منافسة لا تقدم مياها معدنية بنفس جودة سيدي علي وبنفس ثمنه، أليس في الأمر إن...
المقاطعون.. السياسة مثل الهواء ولا تفزعنا
لم نجد مخاطبا نتوجه إليه بأسئلتنا للمقاطعين، الحركة التي أصبح من الصعب أن تجد من يمثلها، إذ تبدو كتيار عارم بلا رأس ولا ذيل، لكن ما يكتب وما يرسم، وما ينشر عبر الصورة والفيديو، والنكتة والكوميكس، والنقاشات المفتوحة في الواتساب والفايسبوك خاصة تؤكد أنه ليس للمقاطعين حسابات خاصة مع أي شركة ولا مع مدرائها، وأن المقاطعة تعبير عن صرخة المتضررين من الغلاء الفاحش للمعيشة.
لقد شغلت المقاطعة المغاربة، وبرغم محاولات الركوب على دفاع حيوي يتم بدون عنف وبشكل حضاري ويستهدف ارتفاع القدرة الشرائية للمسحوقين، فقد أبرز المغاربة أنهم يعيشون لحظة نقاهة بعد إصابتهم بما يشبه داء فقدان المناعة المكتسبة، بعد أن بدا أن كل الأنظمة الدفاعية للمجتمع قد تم تدميرها. إن المواطنين يبدون اليوم جد سعداء بانخراطهم في حركة مقاطعة واسعة، حيث إن مشاركتهم السياسية غير التقليدية ومن خلال وسائط الميديا كان لها التأثير المرجو في رفض واقع اقتصادي واجتماعي صبروا على أذاه طويلا، وحان الوقت ليقولوا: "باسطا"، توقفوا عن المس بقدراتنا الشرائية.