يوم بيوم نور الدين مفتاح يكتب: سوريالية بالفرنساوية نور الدين مفتاح نشر في 18 أبريل 2024 الساعة 9 و 20 دقيقة خلال هذه الأزمة المغربية الفرنسية، لم نكن من حزب المزايدين الذين يصبون الزيت على النار، ولكن قلنا دائما إن فرنسا شريك استثنائي، بل تكاد تكون قدرا نظرا للمشترك بيننا تاريخيا واقتصاديا وسياسيا وثقافيا. ومهما كان، ففرنسا ظلت منذ اندلاع الصراع المفتعل حول الصحراء من أنصار المغرب، وحاملة الفيتو في مجلس الأمن في وجه أي قرار ضد الرباط، وظلت كذلك حتى في الأزمات، ولكن السياسة ليست خطا مستقيما، وإذا كان من حسنة للأزمة التي ما زلنا نعيش بعض تداعياتها، فهي أننا بدأنا نتعامل مع فرنسا ندا للند، وخرجنا من وصايتها الثقافية، ومن لغتها التي تحتل اليوم المرتبة الخامسة، وتعاني هي نفسها منها في مجال مواكبة البحث العلمي مقارنة مع اللغة الإنجليزية. واستبشرنا خيرا بالقانون الإطار للتعليم والهندسة اللغوية المتعددة، وفي النهاية صُعقنا بعودة الفرنكوفونية في التعليم حتى قبل أن تعود العلاقات السياسية بين البلدين إلى أوجها. عجيب! نور الدين مفتاح [email protected]
نكتب هذه الكلمات ونحن نودع شهرا فضيلا تتحول فيه الأمزجة، وتغتسل فيه الأنفس التواقة للارتقاء، وتذرف فيه دموع الخشوع، وترفع فيه الدعوات لأبواب السماء المفتوحة، وتمتلئ فيه مساجد الله في تراويح بهية، ويؤدى فيه ركن من أركان هذا الدين العظيم بحماس الإيمان الدفين فينا. وفي العشر الأواخر يزداد الاجتهاد، وتطمئن الصدور بالقيام، وتمتلئ بيوت الله بالمناجاة، وتفرج الكروب وتنشرح القلوب، ويتسيّد القرآن في كل مكان.
لهذا الشهر الفضيل مكانة خاصة عند المغاربة ضمن باقي العبادات، دينيا ما دام الله عز وجل قد قال في الحديث القدسي: «إن كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فهو لي وأنا أجزي به»، واجتماعيا ما دام هو شهر التآزر والعلاج الروحي من التوترات والهواجس والانكسارات: «ألا بذكر الله تطمئن القلوب» صدق الله العظيم.
وبعدها يأتي هذا العيد الذي يحتفل فيه الصائم بنعمة بلوغ هذا الشهر ونعمة صيامه وقيامه، وفرصة أن يكون هذا العمل لوجه الله وعتقا من النار.
فاللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عنا، واغفر ذنوبنا، ولو كانت كزبد البحر، واجعل هذا البلد آمنا مطمئنا تواقا دائما للعلا والسؤدد. آمين.
وبما أن الحياة لا تتوقف خلال شهر الصيام، فقد تابعنا العجائب في تدبير الشأن العام، وكانت الأعجوبة الأولى هي إقدام الحكومة الموقرة على بيع «رأس المال» في ما سمي بالتمويلات المبتكرة، وهي لعمري «تمويهات مبتكرة» بحيث تم بيع المستشفيات العمومية والمستوصفات والبنايات الإدارية والجامعات على أن يبقى تدبيرها عند الحكومة لتؤدي لمُلاكها الجدد ثمن الكراء! هذه فضيحة مرت في تكتم مريب، وحتى عندما كشفناها، لا من تحرك وكأنهم في القبور.
وأما الفضيحة الثانية في هذا الشهر الفضيل، فهي حصول الحكومة الموقرة على قرض من الحكومة الفرنسية بقيمة 100 مليار سنتيم تقريبا، مع منحة توازي نصف هذا المبلغ، بحجة دعم تدريس اللغة الفرنسية والتدريس باللغة الفرنسية في الثانويات الإعدادية وهذا في إطار برنامج جديد يعد جزءا من خارطة الطريق (2022 – 2026)، وبغض النظر عن كاريكاتورية هذه الخطوة التي يبدو فيها المبلغ المقترض كنقطة في بحر ميزانية للتعليم تصل إلى أكثر من 7300 مليار سنتيم، وبغض النظر كذلك عن تعارض التزامات هذا القرض مع القانون الإطار يبدو أن هذه الحكومة متخصصة في ضرب القانون والدستور في مئات الملفات وخصوصا المادة 32 منه وكذا مشروع الهندسة اللغوية الذي أصدر بشأنه المجلس الأعلى للتعليم رأيه، ويتعلق بتعدد اللغات المدرسة والمدرس بها بما في ذلك الإنجليزية.
بغض النظر عن كل هذا، نجد أنفسنا مصدومين ونحن نرى كيف أن هذه النخبة الفرنكوفونية أقامت الدنيا ولم تقعدها عندما خضنا في أخطر أزمة مع فرنسا، وسمعناهم يهددون ويتبرمون، والواقع أننا نكتشف أن الكثيرين منهم لا يمارسون إلا التقية، ولا ينتظرون إلا انفراج الأمور للعودة إلى الحضن الفرنكفوني. وهذه القضية اللغوية بيان صارخ على هذه السكيزوفرينيا النخبوية والحكومية.
خلال هذه الأزمة المغربية الفرنسية، لم نكن من حزب المزايدين الذين يصبون الزيت على النار، ولكن قلنا دائما إن فرنسا شريك استثنائي، بل تكاد تكون قدرا نظرا للمشترك بيننا تاريخيا واقتصاديا وسياسيا وثقافيا. ومهما كان، ففرنسا ظلت منذ اندلاع الصراع المفتعل حول الصحراء من أنصار المغرب، وحاملة الفيتو في مجلس الأمن في وجه أي قرار ضد الرباط، وظلت كذلك حتى في الأزمات، ولكن السياسة ليست خطا مستقيما، وإذا كان من حسنة للأزمة التي ما زلنا نعيش بعض تداعياتها، فهي أننا بدأنا نتعامل مع فرنسا ندا للند، وخرجنا من وصايتها الثقافية، ومن لغتها التي تحتل اليوم المرتبة الخامسة، وتعاني هي نفسها منها في مجال مواكبة البحث العلمي مقارنة مع اللغة الإنجليزية. واستبشرنا خيرا بالقانون الإطار للتعليم والهندسة اللغوية المتعددة، وفي النهاية صُعقنا بعودة الفرنكوفونية في التعليم حتى قبل أن تعود العلاقات السياسية بين البلدين إلى أوجها. عجيب!
سنعود مرة أخرى في هذا الموضوع إلى رجل استثنائي استطاع أن يقرأ عمق هذه الوشائج المعقدة مع باريس، وحتى وإن كان المفكر عبد الله العروي قد كتب ما كتب قبل سنتين من الآن، فإننا سنجد ما خطه في كتابه الجديد «دفاتر كوفيد» كأنه يتحدث عن التطورات الآن: «يتساءل البعض لماذا تُظهر فرنسا كل هذا العداء اتجاهنا؟ إنه حقا لغز. لم يعيروا اهتماما كافيا لما قاله أحد المحللين خلال أزمة بيغاسوس: نحن نلوم المغرب وعلينا أن نعرف من يقف خلفه، وكان يقصد الأمريكيين بالطبع. ربما يكون الفرنسيون، وأقصد أجهزتهم الأمنية، مقتنعين بأن نظراءهم الأمريكيين أخذوا مكانهم مع الأجهزة المغربية، وأن هذه الأخيرة أصبحت خارجة عن سيطرتهم، وإذا كانوا يستخدمون مثل هذه الوسائل غير الخفية للضغط على السلطات المغربية فإنهم متجاوزون فعليا».
«كل الأزمات الفرنسية المغربية – يضيف العروي – منذ قضية بنبركة ترجح استياء أجهزة المخابرات الفرنسية. بالطبع الاتفاقيات مع إسرائيل لم تسهل الأمور، ولهذا يمكن أن يزداد الأمر سوءا».
وهنا نصل مع العروي إلى بيت القصيد: «يعيب المغاربة على الجزائريين استغلال الغاز للضغط على الدول الأخرى لتحقيق أهداف سياسية، ويتناسون أنهم يفعلون الأمر ذاته ! أو يهددون على الأقل بذلك، كما حدث مع فرنسا التي نضغط عليها لكي تسير على خطى أمريكا في قضية الصحراء، وبعدها نعُد زبناء أوفياء لها كما كنا من قبل. وهنا مرة أخرى كما حدث مع متيران وهولاند، نضيع فرصة ثمينة للتحرر من الوصاية الثقافية الفرنسية، ولا نريد أن ندرك أنها مشكلة استراتيجية».
وها هي الخلاصة التي تردّ على القرض الفضيحة حسب حكم العروي: «ليس على الحكومة أن تفرض على المغاربة تعلم هذه اللغة الأجنبية أو تلك، بل تتركهم أحرارا للاختيار وتوفر الإمكانيات اللازمة والعدد الكافي من الأساتذة، فآنذاك لن يكون الأمر مشكل سياسة خارجية بل سياسة داخلية».
صدقت سيدي، والمشكل الأكبر أنه حتى مع إرادة الحكومة الواضحة في فرض لغة أجنبية على المغاربة لتعلمها وهي الفرنسية، فإنها لم توفر لها إمكانيات ذلك، أو لم توفرها للسواد الأعظم من التلاميذ الفقراء في المدارس العمومية. وهكذا وبشكل فجائي سيقدم وزير التربية الوطنية سنة 2015 رشيد بلمختار ودون علم رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران على إصدار مذكرة لبداية تدريس المواد العلمية والتقنية بالفرنسية في المرحلة الثانوية. وتم تعميم التجربة في 2018 مع إلغاء مبدأ الاختيار، وكانت النتيجة كارثية، بحيث إن الهيئة الوطنية للتقييم للمجلس الأعلى للتعليم أكدت ضعف التلاميذ في مادة الفرنسية المفروضة عليهم، بحيث إن 69 في المائة منهم استوعبوا أقل من 21 في المائة من المقرر الرسمي للفرنسية مع ما ترتب عن هذا من زيادة في نسبة الهدر المدرسي.
أليس مؤلما هذا الواقع في بلد حباه الله بموقع هائل، ويقود سياسة خارجية ندية، ويستطيع أن يتخلى عن وصاية فرنكفونية مجانية، ويرتبط بالعصر ولغته الإنجليزية، وينوع مع شركاء تاريخيين آخرين بالإسبانية، ونرى حكومته تقترض بشروط الخزيرات لإجبار الناس على الفرنسية؟!
ندعو الله بعد هذا الرمضان الفضيل والكريم أن يهدي هذه الحكومة إلى ما ينفع الناس في هذا البلد الذي لم يعش مع حكومة بكل هذه السريالية.