جيل مضى يعرف الصديق معنينو كنجم تلفزيوني في زمن ولادة التلفزيون المغربي، ولما كان هذا الجهاز يدخل كل بيوت المغاربة في سنوات الصراع السياسي، فإن الصحافي فيه تحول إلى شاهد قريب جدا من قلب صنع القرار في البلاد، وهكذا كان معنينو قريبا من الحسن الثاني في محطات مفصلية من تاريخ المغرب، وكان الملك يعتبر التلفزة سلاحه الخاص للانتصار لسياساته ضد المعارضة اليسارية التي كان سلاحها هو الصحافة المكتوبة. في هذا الحوار المطول، الذي ننشره عبر حلقات، يقربنا الصديق معنينو، الذي وصل إلى منصب مدير الإعلام والكاتب العام لوزارة الإعلام على عهد ادريس البصري، من أجواء الماضي التي ماتزال ترخي بظلالها على الحاضر، ويطوف بنا على الأجزاء الأربعة من مذكراته "أيام زمان".
في ضيافة الأميرة للا نزهة، وموت علال الفاسي
أقلعت الطائرة الخاصة من مطار سلا، وعلى متنها الوزير الأول وزوجته الأميرة للا نزهة، وعدد من الوزراء والمسؤولين والمساعدين، وعلى متن نفس الطائرة كان هناك صحافيان فقط، هما لسان الدين داوود عن " وكالة المغرب العربي للأنباء"، والصديق معنينو عن دار الإذاعة والتلفزة المغربية.
خصصت ايران استقبالا مميزا للأميرة للا نزهة وزوجها، ووضع جناح ملكي في القصر الإمبراطوري رهن إشارتهما، وهو الجناح الذي لا يسكنه إلا أقرب الأقربين إلى الشاه من الملوك والوزراء. جرت محادثات سرية بين الجانبين لم تسفر عن نتائج هامة، ولكن العلاقات الإنسانية توطدت بين البلدين. كانت الأميرة للا نزهة محط احترام وتقدير من الشاه والإمبراطورة، كما كانت محل عناية خاصة، قال البروتوكول الإيراني في شأنها إنها "لم يسبق له نظير".
كان الحسن الثاني قد قاطع احتفالات " بيرسيبوليس" المخلدة لخمسة وعشرين قرنا على ميلاد الإمبراطورية الفارسية التي حضرها عدد كبير من الرؤساء والملوك .
عاب الحسن الثاني على شاه ايران تخليه عن التقويم الإسلامي الذي يؤرخ انطلاقا من هجرة الرسول عليه السلام، واعتمد تقويما فارسيا قديما يؤرخ حسب جدولة فيها رجوع إلى أيام الماجوسية. عاب الحسن الثاني كذلك على شاه ايران ابتعاده عن العالمين العربي والإسلامي، محاولا دمج بلاده في " الحضارة الغربية" دون احترام لشعور ملايين الإيرانيين المتمسكين بالدين الإسلامي. وعاب الحسن الثاني أخيرا على الشاه معاملته غير اللائقة لدول الخليج واستفزازها باستمرار، وتهديدها بقدراته العسكرية وقوته البشرية، مما دفعها إلى الخوف والقلق من جار متآمر وأناني.
كانت زيارة الأميرة والوزير الأول محاولة لتقريب وجهات النظر، ودعم العلاقات بين العائلتين الحاكمتين، وفتح المجال أمام مبادرات مغربية للتقريب بين ايران والعالم العربي، وخاصة بين طهران وعواصم الخليج.
كنا ولسان الدين نتابع الجانب الرسمي من الرحلة ، ولكن الأميرة قالت لنا منذ البداية:" أنتما عضوان في الوفد، لذلك لا بد من حضوركما كافة برامج الزيارة". كانت الأميرة سيدة طيبة وأنيقة، لها نخوة " ملكية"، احتضنتنا منذ البداية، وشملتنا برعاية لم نتوقف عن التعبير عن شكرنا لها.
زار الوفد المغربي المكان الأكثر حراسة في الإمبراطورية، إنها الطبقات السفلى للبنك المركزي، حيث توجد أجمل وأغنى الكنوز والحلي في العالم، دخلنا في عمق البنك، عبر ممرات سرية وأبواب حديدية ومراقبة إلكترونية، وعندما فتح الباب المؤدي إلى المكان السري، بدت التيجان والقلادات والجواهر وراء زجاج سميك، بدأنا نتحلق حولها لمعاينة دقة صنعها وجمالية ألوانها، وتنوع أشكالها، كما كنا نتبارى للتكهن بقيمتها المالية أو مصدر أحجارها الكريمة ويواقيتها الخلابة، قال لي المرافق الرسمي للوفد "هذا الكنز هو أعظم كنوز العالم وجواهره لا تقدر بثمن".
ونحن نستعد للمغادرة، فتح الباب الحديدي فجأة، ودخل أحد رجال السفارة وسلم الوزير الأول ورقة صغيرة، قرأها عصمان، وقال بصوت مرتفع: "الله أكبر، وأخبرنا بوفاة علال الفاسي برومانيا".
غادرنا طهران، على متن طائرة خاصة، في اتجاه العاصمة الفرنسية ، وقفت ورفيقي عند المخرج الرئيسي للمطار بعد أن ودعنا أعضاء الوفد الذين سيقضون ليلتهم ب "باريس"، انتظرنا مرور الأميرة والوزير الأول، ولما اقتربا شكرتهما على رعايتهما واهتمامهما، واستأذنتهما في العودة إلى المغرب. ابتسمت الأميرة وقالت بصوتها الجهوري القوي:" أنتما صحافيان، وغدا ستجرى في فرنسا الانتخابات الرئاسية الفرنسية، إنها فرصة لا تعوض، السي معنينو، أنت ورفيقك ضيفاي، وعليكما أن تلتحقا بي". انحنينا تقديرا لاقتراح الأميرة، وكنا سعيدين لحضورنا الساعات الأخيرة قبل الانتخابات الفرنسية، التي شهدت عراكا قويا بين " جيسكار ديستانغ" و" فرانسوا ميتران".
لأول مرة في حياتي سأقضي الليل في فندق " كريون" الشهير ضيفا على "الأميرة"، والحقيقة أننا قضينا يومين رائعين في " باريس"، وشاهدنا الرئيس الجديد" جيسكار" وهو يحيي أنصاره بعد فوزه، كما تابعنا أطوار مظاهرات الفرح في شوارع باريس.
تذكرت ايران يوم الإعلان عن وفاة الأميرة للا نزهة، تذكرت عفويتها ورقتها ووسامتها، تذكرت طلعتها الملكية وذكاءها الوقاد.