سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
محمد رضا بهلوي.. شاه إيران الذي تكالبت عليه الأمراض ومات بذبحة صدرية قاتلة حاصرته الأمراض مع سقوطه من على العرش ومطاردته من طرف معارضيه عبر عواصم العالم
قد تضيق كتب التاريخ بذكر أشخاص مهووسين أقحموا بلدانهم في حروب طاحنة أشعلت فتيل الفتنة عبر العالم، مدفوعين بشهواتهم الهستيرية في التوسع والتسلط على البلاد والشعوب، للاستئثار بإنجازاتها وخيراتها، غير آبهين بالخراب والدمار اللذين يتسببون فيهما ولا بالبؤس والشقاء اللذين يخلفوهما في النفوس، ناهيك عن ألوف القتلى والجرحى والمتشردين، إنْ في صفوفهم أو في صفوف البلاد التي يقتحمونها لكنْ، في المقابل، ثمة قاعدة ثابتة لا تقبل الجدل وتعنينا جميعا، دون استثناء ولا مفرَّ منها لأحد تقول: «عندما يتقدم العمر بالإنسان يضعف»، وبالتالي فإن مرور السنين والحروب يترك آثارا سلبية في تركيبة الجسم البشري، إذ «يتآكل» هذا الجسم وينال الوهن من جميع أعضائه وأجهزته، ومنها الدماغ، مركز التفكير والقرار... ظاهرة تصيب عظماء العالم، كما تصيب صعاليكه، فتصيب من تصيبه ممن توصلوا إلى القناعة وابتلاع ما يردده على مسامعهم بعض الأطباء المراهنين الذين يحيطون بهم ويلعقون مما في صحونهم، موهمين إياهم بأنهم قد اكتسبوا عظمة تحصّنهم وتمنع الضعف والوهن من التسرب إلى أجسامهم.. إنهم مرضى حكموا العالم... جاء في تقرير سري لوكالة المخابرات الأمريكية نشرته الصحافة الأمريكية شهر يوليوز 1975 وأحدث ضجة كبيرة في الولاياتالمتحدة: «كان شاه إيران شخصية لمّاعة وبرّاقة لكنه شخص خطر مصاب بالعظمة والكبرياء معقد نفسيا من معاملة والده الظالم له خلال طفولته، شديد الخجل من أصله الوضيع، مصاب بالخوف من عدم كفاءته الجنسية وعقدة النقص التي رافقته حتى مماته، كان مصابا بمرض عضال لم ينجح الأطباء في تفسيره». ملك الملوك هو شاه شاه (ملك الملوك) محمد رضا بهلوي شاه إيران ( ولد في العاصمة طهران في السادس والعشرين من أكتوبر من العام 1919 مشكلا آخر شاه يحكم إيران قبل قيام الثورة الإسلامية عام 1979)، الذي دانت رقاب الملايين لحكمه المطلق، يأخذ ما لذ وطاب من مالها ودمها، يتملقه الشرق والغرب ويتمرغون عند إقدامه، فقد كانت الولاياتالمتحدة تفرش له البساط الأحمر في كل زياراته المتعددة لها، أما الاتحاد السوفياتي فكان يستقبله بالمراسيم الامبراطورية التقليدية التي لم يستقبل بها أيا من ملوك ورؤساء العالم أجمع، فتحت له جميع البلاد الصناعية المتقدمة ترسانتها ووضعت رهن إشاراته أسلحتها الأكثر سرّية وتطورا ليختار منها ما يشاء لجيشه الذي رعاه واهتم به. المّن البترولي كان عمره اثنين وعشرين عاما عندما اقتلع البريطانيون والده من الحكم بحجة تعاونه مع ألمانيا النازية وقذفوا به خارجا عام 1941 قبل أن يدفعوا به إلى العرش يملون عليه تصرفاته وسلوكه بعد أن كان لعبة بين يدي أمه وشقيقته المتسلطة يوجهانه كيفما يشاؤون، ولعل هذا هو السبب الذي جعله ينشأ خجولا ضعيف الشخصية يفضل العزلة والتصوف (إن صح التعبير) يعوض من خلالهما عدم الثقة بالنفس. يقول الكاتب الإيراني «فريدون شاهجام» في كتابه محمد رضا بهلوي شاه إيران «كان شاه إيران لعبة بين يدي أمه وشقيقته، سهلت على الولاياتالمتحدةالأمريكية والاتحاد السوفياتي تحريكها كيفما يشاؤون، لكنه سرعان ما أضحى قاسيا متسلطا يضرب بالحديد والنار وسرعان ما أحسن استغلال المّن البترولي، تلك الكنوز التي خرجت من أرضه، فقد كان همه الأول والوحيد أن يجعل من إيران القوة العسكرية الخامسة في العالم، فقد كان يؤكد دائما على أنه يريد الوصول بشعبه إلى مصاف الشعوب الأكثر مدنية وتطورا، فكان يغدق الأموال دون حساب ويجلب الماء لفلاحيه ويشرك العمال في ملكية المصانع، أما الحسناوات الإيرانيات فقد منحهن الحرية التي يتشوّقن إليها وإلى تذوقها واعدا إياهن بالمساواة مع الرجال. الثورة البيضاء عندما كان الشاه طريح الفراش من حمى التيفوئيد وهو في الثامنة من عمره (يضيف الكاتب)، أتى إليه في حلمه الإمام علي كرم الله وجهه متمنطقا بسيفه الشهير ذي الفقار وسقاه جعة من الشراق فأفاق من نومه سليما معافى، وفي مرحلة ثانية إثر سقوطه من على ظهر جواده مغمى عليه رأى في أثناء ذلك عم الرسول صلى الله عليه وسلم والإمام المهدي وقد نجا من محاولتين لقتله بشكل معجزة، ففهم من هذه الإشارات أنه مدعو للقيام بمهمة مقدسة وأنه في حماية الله ولن تنال منه يد الشر والعدوان. فبعد أن انتهت الحرب العالمية الثانية وسكتت أفواه المدافع خرج الشاه الشاب (26 سنة) من أحضان البريطانيين ليرتمي في أحضان الولاياتالمتحدةالأمريكية، التي تركت له الحبل على هواه بغية الاستئثار بالنفط فقط غير آبهة بأعدائه المحيطين به من كل جانب، فهناك الأكراد من جهة والأذربيجانيين من جهة أخرى الذين أقاموا لأنفسهم جمهوريات خاصة بهم، وأضحوا يكيدون له المكائد رفقة زعماء ورجال الدين لكرههم والدته وآل بهلوي، الذين اغتصبوا الحكم وأضحوا يدعمون منافسه العريق رئيس الوزراء «مصرف» الذي كان يحلم دائما بإرسال الشاه وعائلته في نزهة طويلة منفيا خارج البلاد، تلك النزهة التي بدأت فعلا في شتنبر عام 1953 حيث غادر الشاه إيران وتحت ضغط الجماهير وتحت جنح الظلام، قبل أن يعود إليها منتصرا بمساعدة جهاز المخابرات الأمريكية ليخطط بسرعة مذهلة لإحداث انقلاب ناجح أعاده إلى سدّة الحكم والعرش (أمنت الولاياتالمتحدة من جديد لنفسها البترول لمدة طويلة) ناصحة إياه بالتصرف بالحكم بشكل قوي وصارم كونه سيكون في مأمن تحت ظل راية النجوم ليبدأ الانتقام لنفسه وبشكل خاص من رئيس وزرائه السابق مصرف وأعوانه. بدأ الشاه بقيادة ثورته البيضاء بإجراء تطهير شامل في صفوف الجيش الذي تسلل إليه عدد لا يستهان به من الشيوعيين، مجهزا بذلك على جميع المصابين بعدوى الماركسية أو العدوى الوطنية من خلال جهاز بوليسه السري «السافاك» الذي اختطف وقتل وزجّ في السراديب الضيقة بمئات الآلاف من الإيرانيين، جعل الشعب يركع حينئذ عند قدميه ليخرج لهم ويقول في إحدى خطبه بعد أن شد قامته ورفع رأسه وشمخ أنفه ولسان حاله يقول: «إن التاريخ لا يصنع دون طحن عظام بعض الرجال». عندما تعصف الهموم تأزمت الحالة السياسية في البلاد وأخذت تنذر بخطر منتظر نتيجة لسياسات الشاه تجاه المعارضين له وأعدائه السابقين من جهة، ونتيجة للهموم النفسية التي أصيب بها بعد اكتشافه إصابته بمرض خطير غير قابل للشفاء، فتوقف فجأة ذلك التوسع الاقتصادي الذي جاء به من خلال ثورته البيضاء (بناء الفنادق والطرقات والسدود والأبنية الشاهقة ودور الأوبرا والفن والمسرح والمساجد)، وتوقفت المشاريع الطموحة طويلة الأمد (نتيجة تفاقم أزمة البترول وهبوط أسعاره)، فغرقت البلاد في أزمة اقتصادية خانقة وعرفت تضخما ماليا لم تشهده إيران قبل ذلك، فتفجرت الفتنة (التي قادها الزعماء الدينيون) في العديد من المقاطعات والبلاد الإيرانية خلال يناير 1978 وتكاثرت يوما بعد يوم حتى عمّت أرجاء البلاد وضمّت في صفوفها طبقات مختلفة من الشعب دون أن يتدخل النظام وجيشه ومخابراته لإخمادها وتخفيف حدتها، كان الشاه قد انهار واستسلم وفقد معنوياته وعنجهيته وانحنى ظهره وانغمس في الدعاء على أمل أن تمر تلك العاصفة بسلام وكأنه أصبح عجوزا بين ليلة وضحاها وقد تصّور المحللون حينها بأن الشلّل والتقاعس قد أصابا الشاه. النفي والتشرد كان الشاه يجلس يوميا في مكتبه الضخم مسدل الستائر ومقعده الوثير لأكثر من ساعتين يوميا دون أن يتمكن من العمل، يحمل في يده اليمنى كأسا من الماء تكاد تلاصق فمه قبل أن يضع ما تحمله اليد الأخرى من أقراص الدواء التي داوم على أخذها في مواعيدها فيقذف بها إلى جوفه مع قليل من المياه المعدنية التي استوردها خصيصا من العاصمة الفرنسية باريس، كان يجلس مفتوح العينين شارد الذهن لدرجة أنه لم يكد يسمع ما يمليه عليه مستشاروه السياسيون الذين أكل عليهم الدهر وشرب وقد بلغ منهم الكبر عتيّا، لا يشعرون ولا يعرفون ما يحاك ضدهم في الشوارع والأزقة، يتابعون (وفي سرية تامة) اتخاذ الترتيبات اللازمة للحاق بأموالهم وعائلاتهم التي سبقتهم إلى الخارج. تصاعد الضغط والاحتجاج في الشارع الإيراني بعد أن أصبح الشاه معزولا وحيدا محجّما لا يعرف كيف يتصرف، فلم يعد أمامه سوى السفير الأمريكي الذي كان يتصل به كل ساعة يسأله النصح والإرشاد للتخفيف من حدة العصيان، فلم يكن من السفير الأمريكي (البلاد الصديقة التي تزين شوارع عاصمتها بالأعلام الإيرانية وتفرش له البساط الأحمر في مطاراتها كلما أراد زيارتها والاستجمام فيها) سوى تشجيع الشاه على الهرب طالما تسمح الفرصة له بذلك (نصيحة ودّية) ليتحرك الشاه تاركا البلاد متخليا عن الحكم في السادس عشر من يناير 1979 مبقيا على حياته لثمانية عشر شهرا فقط. كانت مصر هي أولى مراحل النفي والتشرد بالنسبة للشاه التي قضى فيها أسبوعا كاملا من الراحة قبل أن يلبي دعوة الملك الراحل الحسن الثاني لزيارة العاصمة الرباط لتمضية ثلاثة أسابيع في مدينة مراكش الحمراء، تلك المدينة التي أعادت مناظرها الخلابة إلى الشاه بعضا من صحته وعافيته قبل أن يكتشف الأطباء فيها إصابته بتضخم في الطحال طار على إثره للاستشفاء في الولاياتالمتحدة التي رحبت به كعادتها في البداية من طرف رئيسها آنذاك جيمي كارتر قبل أن تطلب منه مغادرة أراضيها (بعد تهديد الإيرانيين باقتحام السفارة الأمريكيةبطهران) والبحث عن مأوى بديل ليحل من جديد في إحدى مستشفيات جزر البهاما في الثلاثين من مارس 1979، والتي لم يطل المقام فيها بسبب إجراءات السلامة المفقودة وبسبب مصاريف الاستشفاء الباهظة (24000 دولار يوميا). هنا لم يبق أمام الشاه سوى الضغط من جديد على الإدارة الأمريكية للسماح له بالعودة إلى أراضيها بشكل استثنائي (للاستشفاء فقط)، والتي وافقت بعد تدخل صديقه الحميم هنري كيسنجر (وزير الخارجية آنذاك) والعودة إلى مركز كورنيل الطبي لاستكمال العلاج حتى نهاية 1979 لحظة اكتشاف الأطباء إصابة الشاه بسرطان خبيث في كبده ليخرج جيمي كارتر ويقول بعد علمه بمرض الشاه: «إذا كان الأمر يحتاج إلى علاج هنا فعلينا استضافته ومعالجته فورا حتى شفاءه التام مهما طال الزمن ومهما كلفنا الأمر. كانت كلمات الرئيس الأمريكي كارتر قد تسرّبت إلى الصحافة العالمية فهاج الآلاف من الإيرانيين في شوارع طهران واجتاحوا السفارة الأمريكية واحتجزوا ثلاثة من موظفيها كرهائن وأحرقوا العلم ذا النجوم معلنين بأنهم سيقتلون الرهائن إذا لم يستجب الرئيس الأمريكي كارتر لمطالبهم ويقوم بتسليمهم الشاه لمحاسبته عما قام به من أعمال وحشية أمام القضاء الإيراني ومجلس العدالة والثورة. على الجانب الآخر كان الشاه يتلقى كل ما يلزم من العناية والعلاج وكانت الأسابيع تمضي بسرعة على وقع غضب الشارع الإيراني الذي امتدت هتافاته لتصل إلى الشارع الأمريكي كذلك، فاندلعت المظاهرات تنادي بطرد الشاه من الولاياتالمتحدة وتسليمه لرجالاته في طهران، خاصة بعد أن احتجز الإيرانيون الرهائن لديهم، فتعثّر الرئيس الأمريكي كارتر في ما سيفعله، هل يغضب الشارع الأمريكي والإيراني ويضحّي بأرواح الرهائن الأمريكيين مقابل الاحتفاظ بالشاه وبقائه على أراضي الولاياتالمتحدة؟ أم يعمل النقيض ويقوم بطرد صديقهم القديم الذي شكل لهم دائما فرصة ذهبية للحصول على البترول الإيراني؟ هنا قام الرئيس كارتر بإقناع الشاه بخطورة الموقف واعدا إياه بالحفاظ على سلامته والتكلف بعلاجه في أحد مستشفيات الجارة المكسيك. وفي نهاية عام 1979 طار الشاه على متن طائرة خاصة باتجاه المكسيك بغية العلاج، وما هي إلا ساعات قليلة من الطيران حتى اضطرت معها الطائرة للهبوط اضطراريا في مطار انطونيو بولاية تكساس بعد علم الربان بعدم موافقة السلطات المكسيكية على دخول الشاه إلى أراضيها تخوفا من اقتحام الإيرانيين لسفارتهم هناك واحتجاز من فيها كرهائن. (كان المكسيكيون قد أغلقوا الأبواب أمام الشاه ورفضوا دعوة الرئيس جيمي كارتر بالسماح له بالدخول إلى أراضيها) وبالتالي لا رغبة لديهم بفتح باب الاحتمالات والمخاطرة، فقامت حالة من الهرج والمرج في المطار خاصة وأن الشاه لا يعلم أين يذهب الآن بعد انسداد أبواب أقرب المقربين إليه، فنشطت الاتصالات والتحركات الدبلوماسية على أعلى المستويات ولم يجد مكانا سوى بناما التي قبلت باستضافة الملك المشرد الذي سرعان ما حل بأحد مستشفياتها لاستئصال الطحال ليطير من جديد خارج حدودها (بعد علمه بنيّة السلطات في بناما تسليمه إلى قوات الثورة الإيرانية) إلى العاصمة المصرية القاهرة التي دعاه فيها الرئيس أنور السادات (بعد نداءات الرحمة والشفقة الطويلة) وأمر بإخضاعه للجراحة بمستشفى القاهرة وإخضاعه للعلاج الكامل لاستئصال الورم الخبيث، لتكون رصاصة الرحمة هي الأقرب إليه عبر ذبحة صدرية قاتلة ليسّلم الروح في الساعة التاسعة والخمسين دقيقة من يوم الأحد السابع والعشرين من يوليوز 1980. كاتب وصحافي فلسطيني مقيم في المغرب