العلاقات الدبلوماسية بين الدول، تتغير وفق منطق المصالح وترتيب الأولويات..هكذا تقول المعادلات السياسية التي تصلح نظريا في زمن وقد لا تصلح في آخر، وتتكشف منها معطيات تقاس بها إذن جغرافية إطلالة ثلاث دول على البحر الأبيض المتوسط، هي إسبانيا والجزائر فالمغرب..صراع متعدد الأوجه تُستعمل فيه كل أساليب الضغط ويدفع المنطقة دفعا قويا إلى ارتداء عباءة الحرب الباردة. عواصم ترمي بأوراقها على المتوسط، وتبتغي قلب التوازنات أو إحداث خلخلة بها ومن ثم إعادتها إلى سياقها وفق ما يراعي مصالحها، فالجزائر التي قررت علانية عقاب اسبانيا التي اختارت المغرب وطوت معه صفحة خلافات عمرت طويلا نتيجة تماس المصالح وتشابكها، وبالتالي القطيعة فيها قد تفتح توترا على أصعدة مختلفة وجرحا لطالما أُريد له أن يُضمد.
من استقبال اسبانيا لزعيم جبهة البوليساريو إلى الغضب المغربي، وعودة العلاقات الدبلوماسية بعد ذلك في شكل دعم علني لمدريد لمقترح الحكم الذاتي في الصحراء المغربية تحت السيادة المغربية..علاقات أخلّت بميزان مصالح النظام الجزائري لدى صانع القرار الإسباني، مادعها إلى توقيف معاهدات ثنائية مع مدريد والتهديد باستعمال ملف الغاز، في تصعيدها، بيد حكومة بيدرو سانشيز اتهمت هي الأخرى الجزائري بالتواطؤ مع روسيا في الابتزاز السياسي لها.
وأكد عبدالعالي الكارح أستاذ القانون العام، في حديثه ل"الأيام" أن استقبال مدريد السنة الماضية لزعيم جبهة البوليساريو بهوية مزورة في ما يشبه باللعب بالنار وراء ظهر المغرب وخرق لمبادئ حسن الجوار، سببا مباشر في التحول الدبلوماسي الذي انتهى بدعم مدريد للحكم الذاتي في الصحراء المغربية، حيث أفاض كأس التوتر في المنطقة بين النظام الجزائريواسبانيا.
انتقاد الاتحاد الأوروبي لقرار الجزائر تعليق اتفاقية الصداقة مع إسبانيا وتلويحه بأنه قد يعد ذلك انتهاكاً، سيدفع النظام الجزائري إلى إعادة قراءة تصعيده، وهو ما تؤكده بحسب المتحدث، عدم تفعيل القرار خوفا من تضرر علاقات الجزائر بمؤسسة الإتحاد. مضيفا أن الجزائر قد لا تستعمل سلاح الغاز ضد اسبانيا، لكنها قد تلجئ إلى ما يخشاه الأسبان أن تؤدي الأزمة إلى زيادة عدد المهاجرين غير الشرعيين الذين يأتون لإسبانيا عبر الجزائر، إذ تقدر أرقام الشرطة عام 2021، عبور 11300 مهاجر البحر.
بالإضافة إلى العوامل التاريخية المؤثرة، يقول الأستاذ الجامعي إنها ساهمت في الاختلافات الجيو استراتيجية وتعميق هوة الخلاف الحالي. ففي الأول من نونبر الماضي، قطعت الجزائر إمداداتها من الغاز الطبيعي للمغرب عبر خط الأنابيب المغاربي – الأوروبي. جاء ذلك بعد أسابيع من الغموض، اتخذت خلالها الجزائر إجراءات جذرية مثل حظر دخول جميع الطائرات المدنية والعسكرية المغربية في مجالها الجوي.
وبلغت التوترات بين الجزائر والرباط أقصى حدود الدبلوماسية. فبعد عدة أحداث سياسية، وصل الوضع الآن إلى نقطة التصعيد العسكري. و في الوقت نفسه، فإن حياد شركاء الجزائر والرباط الدوليين، بما في ذلك أوروبا والولايات المتحدة، أمر بالغ الأهمية لضمان الاستقرار، يضيف المتحدث.
وحسب الكارح فإن شمال إفريقيا يبدو أنه قد دخلت فترة جديدة وأكثر خطورة من التوترات الجيوسياسية. الاشتباكات الأخيرة بين الجزائر والمغرب من جهة أو بين الجزائرواسبانيا من جهة ثانية، هي تعبير عن التنافس القديم الذي لم يعد بالإمكان تجاهله. قد يتخذ عدم الاستقرار الإقليمي الناجم عن هذه التوترات الطابع الدائم.