لا شيء عادي فوق سماء العلاقات المغربية الإسبانية، ففي الأسابيع القليلة الماضية، جرت الكثير من المياه تحت جسر هذه العلاقات التي يتعمد رئيس الحكومة الإسبانية بيدرو سانشير وصفها ب"القوية" و"التي يطبعها الاحترام"، لكن واقع الحال يؤكد أن العلاقات بين المملكتين الجارتين تمر خلال الأسابيع الأخيرة بأسوأ محطاتها، ويمكن أن تصل إلى درجة القطيعة، أو في أحسن الأحوال، إلى وقف التعاون الأمني، بعد قرار الرباط استدعاء سفيرته للتشاور، وهو ما حدث لأول مرة طوال العقد الأخير.
بالآلاف، عبروا السواحل المغربية متوجهين إلى سبتةالمحتلة، التي تسيطر عليها إسبانيا منذ قرون من الزمن، فعبر معهم التوتر بين الرباطومدريد نحو منعطف آخر. في ظرف ساعات قليلة من يوم الاثنين 17 ماي، عبر من السواحل المغربية نحو مدينة سبتة ما لا يقل عن 6000 مهاجر غير شرعي، ولم يحدث أن وصل عدد الحالمين بالعبور نحو أوروبا هذا الرقم على الإطلاق وفي ظرف ساعات فقط. البيانات الرسمية الإسبانية تتحدث عن تدفق 6000 شخص غالبيتهم العظمى قاصرون (ما بين سن ال 13 وال 18)، تمت إعادة 2700 منهم إلى الأراضي المغربية في اليوم نفسه واليوم الموالي، ووسط زحمة هذه الأرقام، التي تصلنا من إسبانيا في ظل الصمت المتعمد للسلطات المغربية، تجري الكثير من المياه تحت جسر العلاقات بين الرباطومدريد، ظاهرها تدفق غير مسبوق للمهاجرين غير الشرعيين، وباطنها أزمة غير صامتة، علنية صريحة ومكشوفة للعيان، تفجرت بعد استقبال إسبانيا لزعيم جبهة «البوليساريو» الانفصالية إبراهيم غالي، الذي دخل المملكة الإيبيرية بجواز سفر مزور للعلاج، وهو ما فجر العلاقات بين مملكتين جارتين تحسنت علاقاتهما كثيرا في العقد الأخير، وإن ظلت تعرف الكثير من الرّجات بين الحين والآخر.
النقطة التي أفاضت الكأس
لنكن واضحين، ما دام المثل يقول إن «شرح الواضحات من المفضحات»، فالتطورات التي عرفتها العلاقات بين الرباطومدريد، مطلع هذا الأسبوع، ما هي سوى نتاج لزيادة حدة التوتر بين المملكتين الجارتين، بعد استقبال إسبانيا قبل أسابيع لإبراهيم غالي، زعيم جبهة «البوليساريو» الانفصالية، وهو يدخل البلاد بجواز سفر مزور، من أجل العلاج في أحد مستشفيات مدينة سرقسطة.
القرار حينها أزعج الرباط، إلى درجة أن الخارجية المغربية أصدرت بيانا شديد اللهجة تعبر فيه عن استيائها من «قرار مدريد قبول غالي بهوية مزيفة بدون إعلام المغرب»، وقالت إن هذا القرار الإسباني «ستكون له تبعات على علاقتهما»، مما يعني أن ما حدث مطلع هذا الأسبوع ما هو إلا جزء من هذه «التبعات» التي تحدث عنها بلاغ الخارجية المغربية نهاية الشهر المنصرم وهو ينبه مدريد إلى خطورة ما قامت به عند استقبالها لابراهيم غالي بهوية مزورة. وبينما سبق لوزيرة الخارجية الإسبانية، غونزاليس لايا في تصريحات إذاعية أن ردت أن قبول غالي في إسبانيا كان بناء على ما أسمته «أسبابا إنسانية»، علقت على ما حدث مطلع هذا الأسبوع في سبتةالمحتلة بأن تدفق المهاجرين «لم يكن انتقاما» بشأن موضوع زعيم جبهة البوليساريو، مضيفة أنه «لا يمكن أن أتحدث باسم المغرب، لكن ما قالوه لنا منذ ساعات قليلة مضت هو أن هذا ليس بسبب الخلاف بشأن إبراهيم غالي». وشددت غونزاليس لايا مرة أخرى بأن «إسبانيا كانت واضحة جدا بشأن القضية، إنها ببساطة مسألة إنسانية» على حد تعبيرها دائما، وهي تعرف أكثر من غيرها أن تبريراتها تلك لن تكون مقنعة للرباط، مهما كررت عبارة «الدوافع الإنسانية»، ما دام أن أصل الغضبة المغربية هو سماح إسبانيا لإبراهيم غالي بدخول أراضيها بجواز سفر مزور.
ما حدث بين الرباطومدريد لم يكن ليمر مرور الكرام هنا أو هناك، فقد غير الكثير من أجندات وتحركات المسؤولين الإسبان. بيدرو سانشيز، رئيس الحكومة الإسبانية، الذي كان يعتزم القيام بزيارة لباريس قام بإلغائها ووجد نفسه مضطرا لإلقاء كلمة مصورة بشكل مستعجل، تحدث فيها عن العلاقات التي تجمع بلاده بالمغرب، على خلفية ما حدث مطلع هذا الأسبوع في سبتة، مصرا على ألا يتحدث عن وجود أي خلاف بين البلدين وأن يتحدث في كل جملة عن «الاحترام» و»حسن الجوار». مورداً في كلمته المطولة أن: «… المغرب بلد شريك وصديق لإسبانيا، وهكذا يجب أن يستمر. لقد كان الاهتمام بعلاقاتنا دائما جزءا من السياسة الخارجية الإسبانية، وهذا ما ينبغي أن يستمر. أمنيتي، مثل رغبة كل الإسبان، هي زيادة تعزيز علاقتنا وتقوية الصداقة مع جيراننا المغاربة».
ويتابع: «العلاقات الإنسانية والتاريخية والثقافية والاقتصادية والاستراتيجية تدعونا إلى التعاون والعمل للتقدم معا. ولكي يكون هذا التعاون مثمرا وفعالا، يجب أن يقوم دائما على أساس الاحترام… احترام الحدود المتبادل هو الأساس الذي يبنى عليه جوار الدول الصديقة والعلاقات المثمرة للجميع».
وعلى خلفية تصريحات رئيس الحكومة الإسبانية بيدرو سانشيز، الذي حاول طمأنة الرباط بخصوص عمق العلاقات بين البلدين، اهتمت الصحافة الإسبانية بشكل كبير بما حدث، إلى درجة أن العلاقات المغربية الإسبانية كانت المادة الرئيسية لغالبية الصحف الإسبانية مطلع هذا الأسبوع.
جريدة «الباييس»، وهي الأشهر والأوسع انتشارا في إسبانيا، قالت إن مجلس الوزراء في الجارة الشمالية، وافق، على منح المغرب منحة مالية قدرها 30 مليون أورو للمساعدة في الحد من الهجرة غير الشرعية. مؤكدة أن المنحة كانت مقررة في الموازنة المالية لسنة 2021، إلا أن أحداث مطلع هذا الأسبوع عجلت بالتأشير عليها، صباح يوم الثلاثاء، والتعجيل بها لفائدة المغرب. وستستخدم المساعدة، وفق الجريدة الإسبانية، في تمويل دوريات مراقبة الحدود البحرية وصيانة وإصلاح المواد والمخصصات لقوات الأمن. وبحسب تقرير اقتصادي صادر عن بروكسل، تقدر الرباط أنها تحتاج إلى 434 مليون يورو سنويا لتغطية تكاليف ضبط حدودها، ولذلك يمكن أن نفهم كيف أن ناصر بوريطة يكرر في كل مرة أن المغرب لا يمكن أن يكون دركيا بالنسبة لأوروبا وإسبانيا على الخصوص، فحماية سواحل المتوسطي أمر مكلف جدا بالنسبة للمغرب، لا يمكن أن يتكبده لوحده.
المغرب يقيم علاقاته مع الجار الشمالي
ولو أن وزيرة الخارجية الإسبانية غونزاليس لايا كانت دبلوماسية أكثر من اللزوم في تصريحاتها عندما حاولت أن تنحني للعاصفة وتهادن المغرب، وتقنع الجميع أن لا شيء حصل في العلاقات بين الرباطومدريد، غير أن قصاصة من سطر واحد نشرتها وكالة المغرب العربي للأنباء، مساء الثلاثاء، جاء فيها: «علم لدى مصدر دبلوماسي، اليوم الثلاثاء، أن المغرب قرر استدعاء سفيرته في إسبانيا، السيدة كريمة بنيعيش للتشاور»، أكدت بما لا يدع مجالا للشك أن العلاقات بين المملكتين الجارتين ليست على ما يرام، وأن العلاقات تمر من منعرج خطير.
وبحسب المصادر التي تتوفر عليها «الأيام» فمن المؤكد أن سفيرة المغرب في مدريد كريمة بنيعيش عقدت لقاءا مع وزير الخارجية ناصر بوريطة فور عودتها للرباط للنظر في التطورات المتسارعة بين البلدين، خاصة وأن المغرب لا يمكنه أن يتغاضى عن بعض الأحداث التي وقعت بعد استقبال إسبانيا لإبراهيم غالي، خاصة ما حدث عند تنظيم مظاهرات أمام مقر سفارة المغرب بمدريد ووصف المملكة المغربية بنعوت غير مقبولة.
ومن المرجح جدا بحسب مصادر «الأيام» دائما أن يقرر المغرب تعليق تعاونه الأمني مع إسبانيا، وهو الذي كان دائما يرفض أن يلعب دور دركي الجارة الشمالية، خاصة وأن مدريد تريد تعاونا أمنيا فقط في الجانب المتعلق بمحاربة الهجرة غير النظامية، بينما تعمدت استقبال زعيم البوليساريو بجواز سفر وهوية مزورين دون إخبار السلطات المغربية، وهو ما يظهر تناقض الجار الشمالي.
عزم المغرب تعليق تعاونه الأمني مع إسبانيا يمكن كذلك أن نقرأه بين سطور تصريح أخير أدلى به محمد الدخيسي، والي الأمن، المدير المركزي للشرطة القضائية بالمديرية العامة للأمن الوطني ومدير مكتب الأنتربول بالمغرب، الذي أكد أن «التعاون الأمني بين المغرب وباقي دول العالم مبني على أسس الند للند ومبدأ رابح رابح والمعاملة بالمثل وقواعد الشرف».
فالمغرب بحسب خرجة أخيرة للدخيسي على القناة الثانية «دوزيم» بات يعتبر قوة إقليمية وأجهزته الأمنية رائدة على المستوى الإقليمي والدولي ولها مكانتها المرموقة والمحترمة بسبب الوفاء بتعهداتها ودقة معلوماتها.
وفي كلام الدخيسي يمكن أن نقرأ أن المغرب يريد أن يقوم ب»وقفة تأمل» في علاقته بجارته الشمالية، من خلال تعليق تعاونه الأمني مع مدريد، تماما مثل ما فعل مع فرنسا على خلفية استدعائها قبل خمس سنوات للمسؤول الأول عن المخابرات الداخلية، عبد اللطيف الحموشي، لاستنطاقه وهو موجود على الأراضي الفرنسية.
هل آن للمغرب أن يمدّ رجليه باتجاه إسبانيا ؟
في ظل صمت الحكومة المغربية حول ما حدث ويحدث بسواحل البحر الأبيض المتوسط، إذ لم يسجل أي تصريح رسمي أو غير رسمي لأي عضو في الحكومة المغربية على تفاصيل ما يجري تحت جسر العلاقات بين الرباطومدريد، عكس المسؤولين الإسبان الذين انبروا للتعليق على تفاصيل ما جرى.
ويبقى الاستثناء الوحيد بالنسبة للمسؤولين المغاربة، هو ما كتبه وزير الدولة مصطفى الرميد في تدوينة على صفحته الرسمية بموقع «فيسبوك»، وهي التدوينة التي أثارت الكثير من الامتعاض بحيث اعتبر عشرات المئات من المعلقين في مواقع التواصل الاجتماعي بأنها إهانة للمغرب، وهي تلمح إلى استعمال القاصرين المغاربة كردّ على رعونة إسبانيا.
مصطفى الرميد الذي يعتبر الرجل الثاني في الحكومة، علق على تعكر الأجواء في سماء الرباطومدريد بتعليق على استقبال إسبانيا قبل أسابيع قليلة لإبراهيم غالي، واصفا إياه ب»الإجراء المتهور وغير المسؤول وغير المقبول إطلاقا»، مؤكدا أن من ثمن الاستهانة بالمغرب «غال جدا».
وقال الرميد: «ماذا كانت تنتظر إسبانيا من المغرب، وهو يرى أن جارته (إسبانيا) تؤوي مسؤولا عن جماعة (البوليساريو) تحمل السلاح ضد المملكة؟ وماذا كانت ستخسر لو أنها قامت بالإجراءات اللازمة في مثل هذه الأحوال، لأخذ وجهة نظر المغرب بشأن استضافة شخص يحارب بلاده؟».
وأضاف: «يبدو واضحا أن إسبانيا فضلت علاقتها بجماعة البوليساريو وحاضنتها الجزائر على حساب علاقتها بالمغرب… المغرب الذي ضحى كثيرا من أجل حسن الجوار، الذي ينبغي أن يكون محل عناية كلا الدولتين الجارتين، وحرصهما الشديد على الرقي به».
وزاد في تدوينته شديدة اللهجة: «أما وأن إسبانيا لم تفعل، فقد كان من حق المغرب أن يمد رجله، لتعرف إسبانيا حجم معاناة المغرب من أجل حسن الجوار، وثمن ذلك، وتعرف أيضا أن ثمن الاستهانة بالمغرب غال جدا، فتراجع نفسها وسياستها وعلاقاتها، وتحسب لجارها المغرب ما ينبغي أن يحسب له، وتحترم حقوقه عليها، كما يرعى حقوقها عليه».