Getty Images بينما قد يبهرنا المتفوقون الذين يحققون إنجازات مدوية في سن مبكرة، فإنهم أيضا قد يصيبوننا بالإحباط. وقد تكشف مشاعر الحب والكراهية التي تنتابنا حيال العباقرة وذوي القدرات الفائقة الكثير عن ثقافتنا وعن أنفسنا. عندما ألقت أماندا غورمان قصيدتها في حفل تنصيب الرئيس الأمريكي جو بايدن، ألهبت مشاعر رواد مواقع التواصل الاجتماعي وخلبت ألبابهم. ولم يكن السبب هو كلماتها القوية والمؤثرة فحسب، بل أيضا حداثة سنها، إذ تعد غورمان، التي لم تتجاوز 22 عاما، أصغر شاعرة تلقي قصيدة في حفل تنصيب رئيس أمريكي، وهي أيضا أول شاعرة تنال لقب شاعرة الشباب في لوس أنجليس في عمر 19 عاما. ونالت غورمان بأدائها الرائع ثناء واسعا إلى حد أنه أشعل الطلب على كتبها التي لم تنشر بعد وأدى إلى رواج صور لها تزينها أبيات شعرها، وتعاقدت معها وكالة إدارة المواهب "أي إم جي مودلز" في مجال الموضة والأزياء. وانضمت غورمان إلى قائمة النوابغ الذي حققوا إنجازات عظيمة في سن مبكرة أهلتهم لنيل تقدير المجتمع، من أمثال مانغوس كارلسن، النرويجي الذي نال لقب بطل العالم في الشطرنج في سن 13 عاما، ولاعب كرة القدم الأرجنتيني ليونيل ميسي الذي تألق في صفوف الفريق الأول لبرشلونة وهو في السابعة عشرة من عمره، وألما دويتشر معجزة الموسيقى الكلاسيكية التي أصبحت أصغر ملحنة بريطانية تتعاقد معها شركة للموسيقى الكلاسيكية في عمر 10 سنوات، ومالالا يوسفزاي الناشطة الباكستانية في مجال تعليم المرأة والتي أصبحت في سن 17 عاما أصغر حائزة على جائزة نوبل للسلام. ولن تسجل كتب التاريخ مواهب هؤلاء فحسب، بل ستسطر أيضا إنجازاتهم التي حققوها في سن مبكرة. وتحتفي الثقافة الغربية بإنجازات المواهب الشابة على مستوى العالم، وليس أشهر النابغين فحسب، عبر جوائز عالمية، مثل قوائم "فوربس" للنجوم الصاعدة تحت 30 عاما، وجائزة امرأة العام بين طالبات الجامعات التي تمنحها مجلة "غلامور"، وجائزة طفل العام التي تمنحها مجلة "تايمز". وتسلط هذه الجوائز الضوء على الشباب الذين حققوا إنجازات مبهرة في مجالات الفن والعلوم والأعمال والتجارة وكان لهذه الإنجازات أثرا إيجابيا واسع النطاق. ومن الواضح أننا قد ننبهر بالنجاح الذي يحققه البعض في سن مبكرة. فتقييمنا لإنجازات الشباب يختلف عن تقييمنا لإنجازات الأكبر سنا بسبب التصورات والآراء المسبقة التي نتبناها عن الموهبة الفطرية والقوالب النمطية ذات الصلة بالسن والتغطية الإعلامية المحركة للمشاعر. لكن إنجازات الشباب قد تثير أيضا الغيرة والحسد والمقارنات السلبية. وقد يساعدنا فهم كيفية الاستجابة لنبوغ صغار السن في تنحية تحيزاتنا جانبا، وتقدير هذه النماذج الشابة الملهمة. نبوغ بلا عناء ثمة أسباب عديدة تحملنا على المبالغة في الثناء على إنجازات الشباب، منها وجهة نظرنا المسبقة عن الموهبة، والمعايير الاجتماعية عن الأهداف المهمة في الحياة والتوقعات الثقافية المتغيرة. لكن السبب الرئيسي هو الاعتقاد الخاطئ بأن الموهبة فطرية، وليست محصلة سنوات من العمل الشاق. وتقول تانيا غابرييل بودسون، الأخصائية النفسية التي تجري أبحاثا عن الموهبة والقوالب النمطية وتطور الهوية بجمعية "منسا" الدولية للعباقرة وفائقي الذكاء في ألمانيا: "يعتقد البعض أن العبقرية لا تحتاج لعناء، وأن العمل الشاق لا يلفت الأنظار". وأشارت دراسة أجريت على الطلاب البريطانيين والسويديين عام 2014، إلى أن الإنجاز بلا عناء في المجتمعات الغربية غالبا ما يتم ربطه ب "الذكاء الطبيعي"، في حين أن المجهود الشاق قد يعد مملا وعلامة على الغباء. وعندما يحقق شخص نجاحا مبهرا في سن صغيرة، قد نفترض أنه يمتلك موهبة فذة لأن هذا النجاح يتطلب عادة سنوات طويلة من المجهود الشاق قد تفوق سنوات عمره بمراحل، مع أن هذا النجاح لم يتحقق من فراغ، فغورمان، على سبيل المثال، بذلت مجهودا شاقا للتغلب على اضطراب المعالجة السمعية والتلعثم في مرحلة الطفولة. وبدأ كارلسن لعب الشطرنج وهو في سن الخامسة، في حين بدأ ميسي لعب الكرة في سن الرابعة. وهذا يعني أن الإنجازات ليست مرادفا للموهبة الطبيعية، بل هي محصلة سنوات من التمرين والتدريب. وتقول بودسون: "الإنجازات اللافتة في أي مجال تتطلب الموهبة الفطرية جنبا إلى جنب مع العمل الشاق". وتقول هنّا سويفت، كبيرة المحاضرين في علم النفس التنظيمي والاجتماعي بجامعة كنت، وأجرت أبحاثا عن القوالب النمطية والتمييز على أساس السن وبيئات العمل: "قد يرى معظم الناس أن مسار الحياة والمستقبل المهني مقسم إلى مراحل، ولكل مرحلة منها معاييرها وأهدافها الخاصة. فإذا حقق شخص ما أحد هذه الأهداف قبل بلوغ السن الذي تمليه هذه المعايير، قد يبدو إنجازا استثنائيا". ويقول جوناثان بلاكر، أستاذ علم النفس التعليمي وتنمية المواهب بجامعة جونز هوبكنز ورئيس الجمعية الوطنية الأمريكية للأطفال الموهوبين: "قد يبرع الكثير من الشباب في مجال الشعر والرياضيات، في حين أن معظم الروائيين والفلاسفة والعلماء أكبر سنا. وهذا ينطبق على مجال الرياضة أيضا، فقد يحقق بعض النجوم شهرة واسعة في سن المراهقة في رياضات معينة، لكن هناك رياضات نادرا ما يبرع فيها صغار السن". وفي المجتمع المعاصر، يجذب النابغون الشباب الذين حققوا نجاحات مدوية في سن صغيرة اهتماما إعلاميا كبيرا. وتقول سويفت: "إن المنصات الإعلامية تركز على الشباب وقد تحظى إنجازات الشباب الأصغر سنا بإشادة واسعة، لكن هذا يؤدي إلى عدم حصول الأشخاص الأكبر سنا على الثناء الذي يستحقونه". لكن هذه المشكلة حديثة نسبيا، بحسب ماري جو مينز، أستاذة التاريخ بجامعة مينيسوتا، وتقول: "إن معظم المجتمعات قديما كانت تتعامل مع إسهامات الشباب وعملهم كأمر مسلم به، إذ كان من المتوقع أن يمارس الأطفال والشباب، في الطبقة العاملة والمجتمعات الريفية على الأقل، طائفة عريضة من الأنشطة التي نرى الآن أنها يفترض أن يؤديها البالغون. وهؤلاء الشباب والصغار لم يلفتوا الأنظار لممارسة الأعمال المتوقعة منهم". وبالتوازي مع تطور المجتمعات الغربية، تغيرت التوقعات حول أعمال الأطفال ومسؤولياتهم وأصبح التركيز منصبا على التعليم واللعب. وتقول مينز: "إن النظرة الغربية للطفولة والنمو تستهين بقدرات الشباب وتعاملهم كالأطفال إلى حد أنها تخفض سقف التوقعات، وربما تدهشنا إنجازات الشباب لأننا لا نتوقع منهم تحقيقها في هذه السن". وفي وقت تطالعنا فيه الأخبار يوميا بالكوارث والمآسي، فإن أي عمل بطولي أو رائع أو استثنائي يؤديه شاب أو طفل موهوب قد يعد من الأخبار المبهجة التي نحتاجها بشدة. وأشارت دراسة في عام 2016 إلى أن الأخبار الإيجابية، مثل قصص الأشخاص الذين تحدوا الصعاب ليحققوا النجاح، تبعث على السعادة، على عكس الأخبار السلبية. ويقول بلاكر: "نحن نندهش بطبيعتنا عندما نقرأ عن الإنجازات الاستثنائية التي يحققها صغار السن أو الطاعنين في السن. فنحن نعشق كل ما هو غير متوقع". الجانب السلبي للنجاح في سن مبكرة لكن بطولات ونجاحات الشباب في سن مبكرة قد تصبح أيضا عرضة للنقد. ويقول بلاكر: "أعتقد أن معظم الناس تنتابهم مشاعر حب وكراهية حيال النبوغ المبكر. ففي الكثير من المجتمعات الغربية على سبيل المثال، نحن نعشق الثناء على النابغين الذين حققوا إنجازات رائعة. لكن عقشنا للثناء عليهم قد يفوق بنسبة ضئيلة للغاية رغبتنا في أن نراهم مهزومين". فعندما فاز تايغر وودز ببطولة الماسترز الأمريكية للغولف في عام 1997 في سن 21 عاما، ذاع صيته في الآفاق لكونه أصغر فائز بالبطولة وأول أمريكي من أصل أفريقي يفوز ببطولة غولف مرموقة. لكن في عام 2009، عندما انتشرت أخبار عن خيانته الزوجية، انقلبت آراء الصحف عنه بلا هوادة وكالت له الانتقادات بسبب اختياراته الشخصية غير الموفقة . وكانت لاعبة التنس الأمريكية جنيفر كارياتي في سن 14 عاما أصغر لاعبة تنس تفوز بمباراة في بطولة ويمبلدون، وحصلت على ميدالية ذهبية في الدورة الأولمبية في عمر 16 عاما، لكنها واجهت عثرات عديدة في العقد اللاحق. وبالرغم من الإنجازات التي حققتها في بطولات غراند سلام ووصولها إلى مرتبة متقدمة في تصنيف اللاعبات المحترفات قبل اعتزالها، فإن التغطية الإعلامية كانت تركز على فكرة أنها لم تحقق الوعود التي قطعتها في صغرها. فقد يثير أفول نجم النوابغ والعباقرة شعورا بالشماتة. ويقول بلاكر: "نحن نحب أن نرى الموهوبين يحققون نجاحات مبهرة، لكن في الوقت نفسه قد يعتمل الحسد في نفوسنا." وقد تنشأ هذه المشاعر السلبية تجاه الناجحين الصغار عندما نشعر أن إنجازاتنا لا تحظى بنفس القدر من التقدير. وتقول بودسون، إن التشفي عند رؤية إخفاقات الشباب الموهوبين قد يكون مرده إلى التصور الخاطئ بأن هؤلاء لم يبذلوا نفس القدر من الجهد الذي بذله غيرهم لتحقيق النجاح. ولهذا فإن إخفاقهم يعيد التوازن الذي اختل بنجاحهم والثقة في عالم منصف يحصل فيه الناس على ما يستحقون على قدر الجهد الذي بذلوه". لكن نجاح البعض لا يترتب عليه بالضرورة خسارة آخرين، فهناك عوامل عديدة تسهم في النجاح، بخلاف القدرات الفطرية والعمل الشاق، مثل الشخصية والبيئة ونظام الدعم. وتقول بودسون: "من الخطأ أن يصبح نجاح الآخرين معيارا نضع بناء عليه تعريفا للنجاح. فإخفاق الآخرين لن يجعلنا أفضل حالا، وكذلك نجاحهم لن يجعلنا أسوأ حالا. وقد تؤدي مقارنة أدائك بأداء النابغين والموهوبين إلى تثبيط عزيمتك وإصابتك بالإحباط. وقد يكون من الأفضل أن تضع معايير وأهدافا واضحة وتركز على تطوير نفسك". وفي الوقت الراهن، عندما نرى سطوع نجم مواهب شابة، مثل الشاعرة غورمان، قد نقدر موهبتهم الفذة، بدلا من وضع معايير مستحيلة لهم أو الحكم على أنفسنا بأننا لسنا استثنائيين مثلهم. فالنجوم الشابة تلهم عالمنا وتضيء سماءه طالما ظلت ساطعة. يمكنك قراءة الموضوع الأصلي على BBC Worklife