تصفيات كأس العالم 2026: المغرب على بعد نقطة من التأهل إلى المونديال بعد فوزه على تنزانيا    الأسود يقتربون من مونديال 2026 بعد فوز على تنزانيا    حرب الطرق في المغرب تواصل حصد المزيد من الأرواح    الركراكي يعبر عن رضاه عن أداء لاعبيه ويقول إن هناك عملا كبيرا ينتظر المجموعة قبل كأس إفريقيا    تطور جديد في قضية وفاة الأسطورة مارادونا    أمام مجلس الأمن.. المغرب يندد ب"سياسة الكيل بمكيالين" للجزائر    في رسالة إلى بوريطة.. بوركينافاسو تشكر المغرب على دعمها في رفع تجميد عضويتها في الاتحاد الإفريقي    في رسالة إلى ناصر بوريطة.. النيجر تشيد بالمبادرة المغربية لتعزيز الحوار والاستقرار في إفريقيا    المنتخب المغربي يهزم تانزانيا … بدون إقناع … !    تنقيط أداء لاعبي المنتخب الوطني المغربي بعد الفوز المثير على تنزانيا    تصفيات المونديال.. فلسطين تهزم العراق وتعزز آمال الأردن    بوركينا فاسو، الغابون، والنيجر يشيدون بالمبادرة "النبيلة" لتعزيز الحوار البناء والمستدام على مستوى القارة الأفريقية    شكوى حقوقية حول إصابة طفلة بفيروس الإيدز إثر عملية أذن في مستشفى جامعي    الركراكي: التأهل للمونديال أصبح اعتياديًا.. وهذا دليل قوة الأسود    المركز الثقافي الروسي يبرز نضال الجنود السوفييت والمغاربة ضد النازية    بالأسماء والمسارات: هذه لائحة الطرق العامة التي ستُوسَّع بمدينة طنجة لحل مشاكل الازدحام (خرائط)    أمطار مارس تنعش زراعات الشمندر وقصب السكر بجهة الشمال وتغطي أزيد من 9 آلاف هكتار    نشر القانون التنظيمي للإضراب في الجريدة الرسمية    المغرب وإسبانيا بينهما أفضل مناخ للتعاون على الإطلاق وفق وزير الخارجية الإسباني    تطوان: توقيف شخصين تورطا في نشر أخبار زائفة ومحتويات رقمية تحرض على تنظيم الهجرة غير المشروعة    الأرصاد الجوية: استقرار أجواء الطقس بالمغرب سيتم تدريجيا خلال الأيام المقبلة    ألمانيا تسحب شحنة فلفل مغربي لاحتوائها على كميات مفرطة من مبيدات حشرية    توقيف مواطن فرنسي مبحوث عنه دوليًا في طنجة    ميناء طنجة المتوسط يتقدم في الترتيب العالمي للموانئ    بنموسى: المندوبية السامية للتخطيط ستجري بحثين وطنيين حول استعمال الزمن والأسرة في 2025    أداء سلبي ينهي تداولات البورصة    الدورة الثلاثون للمعرض الدولي للنشر والكتاب فضاء لمواصلة السعي الواعي إلى النهوض بالكتاب والقراءة (بنسعيد)    ارتفاع حصيلة الضحايا في غزة إلى 792 قتيلا، والاحتلال الإسرائيلي يخطط لهجوم بري كبير    مقاييس الأمطار المسجلة بالمملكة خلال ال 24 ساعة الماضية    اكتشاف سلالة مغربية من "بوحمرون" في مياه الصرف الصحي ببروكسل    الدورة العشرون للمهرجان الدولي للرحل.. محاميد الغزلان تتحول إلى ملتقى عالمي يجمع الفنانين    الأطر الصحية بمراكز طب الإدمان بجهة طنجة تتخوف من عودة انقطاع "الميثادون"    جلالة الملك يهنئ رئيس جمهورية اليونان بمناسبة العيد الوطني لبلاده    مشاهد جريئة تضع مسلسل "رحمة" في مرمى الانتقادات    عندما يعزف الشيطان: فصول الجابي !    بعد تداول تصريحات منسوبة إليه.. عمرو موسى يوضح موقفه من المغرب وينفي الإساءة    حوض سبو.. نسبة ملء السدود تفوق 50 في المائة إلى غاية 25 مارس    يا رب أنا جيتلك.. جديد سميرة سعيد    واشنطن تتباحث مع كييف في الرياض    الكوميدي "بهلول" يطلب دعم الفنانين لتسديد شيك بدون رصيد    دراسة: الخلايا السرطانية تتعاون من أجل البقاء على قيد الحياة    تركيا.. القبض على 41 متهماً ب"شتم أردوغان وعائلته"    الوزيرة السغروشني: التحول الرقمي في التعليم يحتاج إلى تعبئة جماعية وتنسيق فعال    أسعار الذهب تتراجع مع صعود الدولار لأعلى مستوى منذ أكثر من أسبوعين    "تراث المغرب".. سلسلة وثائقية لتثمين الموروث الثقافي للمملكة    زلزال عنيف بقوة 6,7 درجات قبالة سواحل الجزيرة الجنوبية بنيوزيلندا    الاتحاد الأوروبي يعزز الدعم العسكري لموريتانيا في إطار مكافحة تهديدات الساحل    الصين وتايلاند يجريان تدريبات بحرية مشتركة    أوراق من برلين .. رسالة فرانز كافكا: جروح قديمة ما زالت تنزف    اكتشاف جديد يحدد الأجزاء المسؤولة عن تذكر الكلمات في الدماغ    ملياري شخص غير مشمولين في إحصاءات عدد سكان الأرض    نهاية سوق پلاصا جديدة بطنجة    بعد 17 شهرا من الزلزال... النشاط السياحي في "الحوز" يتحسن ب48 في المائة بداية 2025    كسوف جزئي للشمس مرتقب بالمغرب يوم السبت القادم    عمرو خالد يحث المسلمين على عدم فقدان الأمل في وعد الفتح الرباني    السعودية تحين الشروط الصحية لموسم الحج 2025    المجلس العلمي يحدد قيمة زكاة الفطر بالمغرب    المجلس العلمي المحلي للجديدة ينظم حفلا قرآنيا لتكريم الفائزين بالمسابقة القرآنية المحلية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نابليون بونابرت في مصر بعيون قادة وضباط حملته العسكرية الذين حاول إسكاتهم
نشر في الأيام 24 يوم 28 - 11 - 2019


Getty Images
شهدت الفترة التي أعقبت الحملة الفرنسية على مصر بقيادة نابليون بونابرت (1798-1801) شغفا ملحوظا بكتابة تاريخ تلك الفترة القصيرة والمثيرة للجدل، على الصعيدين الفرنسي والمصري، دفع معاصرين لها إلى تسجيل شهادات كتبوها في مذكرات ويوميات حملت صبغة التاريخ والتوثيق للفترة، لكنها انطلقت بدوافع شخصية تجاه قائدهم.
تأثرت تلك الكتابات، لاسيما في النصف الأول من القرن التاسع عشر، بحالة انقسام في الرأي بين شهود العيان من القادة الفرنسيين أنفسهم، بحسب اتجاهاتهم الفكرية ودرجة ولائهم لقائدالحملة بونابرت، فخرجت كتاباتهم متباينة من حيث واقع السرد التاريخي وتفسيره.
جاءت هذه المذكرات، التي كتبها بعض القادة والضباط والجنود البسطاء أحيانا، متوافقة مع أهواء بونابرت الراغب في تعظيم مجده بالتعتيم على إخفاقات عسكرية في مصر، في حين جاءت أخرى فاضحة لوقائع شكلت خطورة على مستقبل القائد الشاب ومجده وانتصاراته السياسية والعسكرية في أوروبا تحت لواء الثورة الفرنسية.
Getty Imagesتأثرت الكتابات، لاسيما في النصف الأول من القرن التاسع عشر، بحالة انقسام بين شهود العيان من القادة الفرنسيين
انقسامات واتجاهات فكرية
يرصد مؤرخون ثلاثة اتجاهات فكرية سادت المجتمع الفرنسي خلال القرن التاسع عشر، ونهضت بدور في كتابة تاريخ الحملة الفرنسية على مصر عموما، وبونابرت على وجه الخصوص :
* اتجاه انطلق في شخص بونابرت “الإمبراطور”، جعله موضوعا لسرد وقائع حملته، ركز على تمجيده كقائد بارز، متسترا أو مبررا لإخفاقاته أمام المجتمع الفرنسي والرأي العام الأوروبي.
* اتجاه أعقب سقوط حكم بونابرت في عام 1815، وهو اتجاه دعمته الملكية الفرنسية العائدة في أسرة بوربون (1815-1830)، ركز على فضح دعاية بونابرت وتقليل شأنه، واعتبار حملة مصر أولى حملاته الفاشلة وبداية هزائم فرنسا بقيادته.
* اتجاه وُصف بالقومي، حافظ أنصاره على مكتسبات الثورة الفرنسية كإرث لا يمكن قصره على شخص واحد مهما عظمت مكانته، ركز على اعتبار حملة مصر واحدة من حروب الثورة “المتميزة” لنشر مبادئها خارج الحدود الفرنسية.
تحديات “نابليونية”
اتخذت السلطة الفرنسية، المتمثلة في شخص بونابرت وقتها، موقفا شديد العداء تجاه كل ما يُكتب سلبا في مذكرات قادة عسكريين شاركوا في حملته على مصر، وبرزت صرامته في رد فعله تجاه مذكرات الجنرال رينيه، أحد أبرز قادته، والتي نشرها في باريس عام 1802، بعد عام واحد من عودة الجيش إلى فرنسا، تحت عنوان “مصر بعد معركة هيليوبولس”.
كشف رينيه في مذكراته حالة تخبط واضطراب الجيش الفرنسي في مصر، وتكبد بلاده، ممثلة في حكومة “الديركتوار (الإدارة)” وقتها، خسائر بشرية ومادية فادحة، الأمر الذي دفع بونابرت إلى إصدار قرار يحظر تداول مذكرات رينيه وملاحقتها في المكتبات ومصادرة نسخها.
Getty Imagesعززت مذكرات رينيه رغبة بونابرت في محاولة التخلص من وثائق وتقارير قد تدينه
أدرك بونابرت مدى خطورة نشر حقائق ومعلومات حساسة عن حملة مصر، وأن ذلك قد يفقده بريقه العسكري والسياسي، لكونها تفتح المجال أمام خصوم يتحينون فرصة الإطاحة به، ومحاسبته على إخفاقه في تحقيق أهداف روج لها، ومن ثم تنحيته عن المشهد الفرنسي.
بيد أن إنجلترا، عدو فرنسا التاريخي، نجحت في الحصول على نسخة من مذكرات رينيه وترجمتها إلى اللغة الإنجليزية ونشرتها في العام نفسه تحت نفس العنوان، وقدمتها إلى أوروبا بإشادة ناشرها الذي وصف رينيه بحياديته في نقل معلوماته.
* هل أسلم نابليون بونابرت سرا في مصر؟
عززت مذكرات رينيه رغبة بونابرت في محاولة التخلص من وثائق وتقارير قد تدينه، محفوظة في دور الأرشيف الفرنسية، وتقول مصادر تاريخية إنه أرسل سكرتيره الخاص لوي دو بورين في 17 يونيو/حزيران عام 1802 إلى مسؤول عن دور الأرشيف وطالبه بتسليم كل ما بحوزته من أوراق ووثائق تتعلق بمصر.
ملاحقات وعقوبات
بدأ بونابرت يتعقب كل ما ينشر عنه في سياق حملته المصرية، لاسيما بعد صدور مذكرات أخرى كتبها جندي فرنسي شارك في الحملة يدعى جاك ميو بعنوان “مذكرات تاريخ الحملات على مصر وسوريا خلال السنوات السادسة والسابعة والثامنة للجمهورية الفرنسية”، فضح فيها تردي أوضاع جنود وجيش الحملة، فأمر بونابرت بتشكيل لجنة معنية بمراجعة الكتب قبل نشرها وتنقيح ما يرد فيها، وشمل الإجراء كل ما يُكتب عن حملة مصر تحديدا و حروب الثورة الفرنسية عموما.
Getty Imagesاتخذت السلطة الفرنسية المتمثلة في شخص بونابرت موقفا شديد العداء تجاه كل ما يُكتب سلبا في مذكرات قادة عسكريين
ويقول المؤرخ الفرنسي فليكس بونتاي في دراسته “نابليون الأول ونظام السلطة في فرنسا” إن توطيد حكم نابليون “جعله يحكم رقابته على نشر مذكرات رجاله العسكريين الذين شاركوه في حملته على مصر، وأعطى صلاحيات واسعة لمجلس الدولة وصلت إلى حد تحديد عدد نسخ الكتاب وحذف معلومات يعتبرها المجلس غير مناسبة، وأحيانا فرض غرامات مالية على الكاتب أو إصدار قرارات اعتقال ومصادرة ممتلكاته، فالمجلس هو جهة ترعى حماية مصالح فرنسا المتمثلة في دولة الإمبراطور بونابرت”.
* اعترافات سليمان الحلبي تكشف أسرار مقتل كليبر في مصر
أسهم القرار في عزوف عسكريين بالفعل عن كتابة شهادات ومذكرات خشية الإجراءات الجديدة، حتى وإن كانوا من أنصار بونابرت في الجيش، مثل الضابط هوويه، الذي كتب في مقدمة مذكراته بعنوان “حملة مصر: مذكرات ضابط في الجيش الفرنسي”، المحفوظة في دار الوثائق القومية بالقاهرة، أنه كان يخدم في فرقة الجنرال رينيه.
أكد هوويه أن “كتابته لتاريخ العمليات العسكرية في مصر وسوريا هي بمثابة رد على كل من يحاول الإساءة لحملة نابليون في مصر” والاتهامات الموجهة إليه بأنه كبد الجيش والدولة خسائر كبيرة، فجعل هوويه الحملة الفرنسية وقائدها في كتابة مذكراته جزءا أساسيا من التاريخ القومي لفرنسا.
حذر هوويه من تقديم صورة “قاتمة ومشوهة” عن حملة مصر وقائدها، لأن هذا الاتجاه “سيؤدي إلى طمس كل النتائج العظيمة والمبهرة التي صنعها جيشنا الباسل”، والتي رأى هوويه أنها “جديرة بالإشادة لتكون محل فخر الأجيال المتعاقبة في فرنسا”.
اتبع هوويه أسلوبا خطابيا أخرج نصا موجها بجدارة للقاريء الفرنسي لتاريخ الحملة على مصر على المستويين الحضاري والعسكري، مستخدما صيغا لغوية ترفع من شأن مؤسسته العسكرية وقائدها.
كما حاول هوويه تهميش صورة المقاومة المصرية لبونابرت، وصوّر المصريين على أنهم مجتمع “مستسلم بلا إرادة”، حتى أنه لم يتحدث عن ثورة القاهرة الأولى ضد بونابرت إلا في جزء من صفحة واحدة، بل حاول التقليل من أهميتها ووصفها نصا بأنها “تمرد عام وانتفاضة شعبية”، على الرغم من أنه يضع لها عنوانا فرعيا في هامش مذكراته باسم “ثورة القاهرة والأقاليم في 22 إلى 26 أكتوبر (1798)”.
جعل هوويه أسباب الثورة مجرد اعتراض مصريين على الإدارة الجديدة للبلاد التي وضعها بونابرت، وألقى باللائمة على المماليك كمحرك لها دفاعا عن مصالحهم الشخصية، لإعلاء مجد قائده أمام القارئ الفرنسي والتعتيم على بعض الإخفاقات.
Print Collector/Getty Imagesحرص بونابرت على تقديم تصورات وتفسيرات في مذكراته المعروفة باسم “الميموريال”، والتي أملاها على الكونت لاكاز
“وداعا للمجد“
طاردت حملة مصر بونابرت حتى نفيه في جزيرة سانت هيلانة عام 1815، وهو ما يتضح في حرصه على تقديم تصورات وتفسيرات، بإيجاز أثناء سرد وقائع تاريخ حروبه في مذكراته المعروفة باسم “الميموريال”، والتي أملاها على الكونت لاكاز، وبالتفصيل في مذكرات أخرى أملاها على الجنرال برتران بعنوان “حملات مصر وسوريا 1798-1799 مذكرات تاريخ نابليون كما أملاها بنفسه في سانت هيلانة”، ونُشرت عام 1847.
شهدت ساحة نشر مذكرات العسكريين نشاطا كبيرا بعد سقوط بونابرت عام 1815 وعودة الملكية لفرنسا في أسرة بوربون (1815-1830)، التي استفادت من حالة الاستياء من الرقابة على حركة النشر وتكميم الأفواه، لذا أطلقت الملكية الجديدة العنان لمذكرات ضباط الحملة، المعارضين لبونابرت، وهو ما يتضح من إشارة عرفان كتبها ناشر يدعى موريسو عام 1818 في مقدمة مذكرات بعنوان “مذكرات عن حملة مصر”، كتبها جوزيف ماري مواريه، أحد الضباط المشاركين في الحملة.
يؤكد الناشر في مقدمة مذكرات مواريه أنه “أصبح من الممكن الآن كشف الحقيقة، ولا يوجد سبب للصمت، ولم نعد نخشى سطوة الرقباء”.
Heritage Images/Getty Images
أتاح نشر مذكرات مواريه فرصة اغتنمها الضابط لانتقاد بونابرت علنا في أكثر من موضع، لاسيما عند حديثه عن واقعة تسليم سلطة القيادة العامة للجيش لخليفته الجنرال كليبر، وهروب بونابرت سرا إلى فرنسا، إذ لجأ مواريه إلى حيلة المقارنة النصية للمفاضلة بين أبرز قائدين للحملة.
يقول مواريه: “لم يكن بونابرت يعمل إلا لمصلحته الشخصية، ولم يضع أمام عينيه سوى رفعة شأنه. أما الجنرال (كليبر)، الذي لم يفكر في نفسه، لم يكن ينتظر من رفعة إلا ما يستحقه بالفعل دون أن يسعى إلى ذلك. ولو أن الأول (بونابرت) لم ير أملا في إمكانية الاستحواذ على السلطة العليا في وطنه (فرنسا) لبقي في مصر، ليقيم لنفسه دولة مستقلة ثمنها دماؤنا جميعا”.
ويضيف: “إنه (بونابرت) مثل قيصر، يرى من الأفضل أن يكون الرجل الأول في القاهرة، بدلا من الرجل الثاني في باريس”.
اتخذت الملكية الجديدة إجراء مغايرا لموقف بونابرت وإن كان مماثلا له من حيث الهدف، إذ فرضت رقابة أيضا على نشر مذكرات أو كتابات عسكرية تبرز بونابرت بطلا أو تفتح طريقا أمام أنصاره الجمهوريين لرد اعتباره، وهو ما أكده هوويه في مقدمة مذكراته، مشيرا إلى أن الملكية “أجبرت الصحف على الحط من قدر الأمجاد العسكرية لتلك الفترة”.
Getty Imagesأتاح نشر مذكرات مواريه فرصة اغتنمها الضابط لانتقاد بونابرت علنا في أكثر من موضع
تحولات وضغوط
لم تسلم موسوعة وصف مصر العلمية من الإجراءات الجديدة، إذ يشير العالم شامبليون-فيجاك في دراسته “فورييه ونابليون: مصر ومئة يوم” الصادرة في باريس عام 1844 إلى أن “الرقابة الملكية طالت مجلدات موسوعة (وصف مصر) نفسها وبدأت تراجع كل صغيرة وكبيرة، لا لشيء سوى أنها المشروع الثقافي الضخم الذي يُنسب إلى بونابرت وحملته”، بغية حذف كل ما يشير بوضوح إلى شخص قائدها.
* أسرار ومفارقات تحكي قصة كتاب “وصف مصر”
أحكمت سلطة البوربون قبضتها على كتابة مذكرات وشهادات العسكريين الموالين لبونابرت، واتهمتهم بالولاء له ولفترة حكمه، فسادت حالة صمت جديدة في انتظار الفرصة السياسية المواتية لسرد شهادات تتسم باستقلالية الرأي، ربما تصحح المسار، بحسب وجهة نظر كتّابها، بعيدا عن ضغوط أنظمة حاكمة.
ويقول الكولونيل شالبران في مذكراته “الفرنسيون في مصر أو ذكريات حملتي مصر وسوريا”، المنشورة في باريس عام 1855، إن تلك الضغوط “دفعت جيل العسكريين المتقاعدين من الخدمة العسكرية الموالين لبونابرت إلى عقد لقاءات (سرية على الأرجح) لمناقشة كل ما ينشر عن حملتهم ومراجعة ما لديهم من وثائق للشروع في كتابة مذكرات تخدم تصحيح مسار تلك التفسيرات التي اعتبروها شوهت حملتهم وقائدهم”.
ويصف هوويه في مذكراته أن حملة مصر “عانت من تشويه وتزييف الحقائق على مدار 30 عاما من عودة جيش الشرق (جيش الحملة) إلى البلاد”، ويوصم تلك الكتابات ب “منتج يتسم بالغباء”، في حين وصفها الجنرال بورين، وزير الخارجية في عهد بونابرت، في مذكراته بأنها كتابات “محتالين” أضفوا عليها “الطابع التاريخي”.
Getty Imagesأحكمت سلطة البوربون قبضتها على كتابة مذكرات وشهادات العسكريين الموالين لبونابرت
إنفراجة أمل
خرج بعض القادة عن صمتهم مغتنمين الاستياء السائد وقتها في المجتمع اعتراضا على الأوضاع التي آلت إليها فرنسا بعد انهيار “إمبراطورية بونابرت”، فضلا عن تأجج الغضب المجتمعي بسبب أساليب القمع التي لجأت إليها الملكية، الأمر الذي أفضى إلى ثورة أطاحت بأسرة البوربون في عام 1830، وفقا للمؤرخ محمد فؤاد شكري في دراسته “الصراع بين البرجوازية والإقطاع 1789-1848”.
لم تفرز الثورة والإطاحة بأسرة البوربون نظاما جمهوريا جديدا، بل يشير شكري في دراسته، إلى أن أوروبا “كانت تخشى من قيام نظام جمهوري حربي في فرنسا على غرار ما أعقب الثورة الفرنسية عام 1789، وكان من البديهي أن تواصل أسرة أورليان الحاكمة الجديدة (1830-1848) نوعا من الرقابة للبقاء في السلطة، فسادت من جديد حالة حذر وحيطة من نشر مذكرات تعلي من شأن بونابرت والنظام الجمهوري”.
* مراسلات نابليون تكشف “مشروعه لإنشاء إمبراطورية في دار الإسلام” إنطلاقا من مصر
ويمكن رصد أمثلة مثل شهادة الضابط شارل ريشاردو ومذكراته بعنوان “مذكرات جديدة عن حملة الجيش الفرنسي على مصر وسوريا”، التي باتت تتحين فرصة سقوط الملكية وإعلان الجمهورية الفرنسية الثانية عام 1848، كذلك الجنرال بارون ديفيرنوا، الذي شارك في معظم الحروب الفرنسية وعزوفه عن نشر مذكراته بعنوان “مع بونابرت في إيطاليا ومصر”، بسبب “سخطه على النظام الملكي في فرنسا” كما يشير فيها.
Getty Images
وإن كانت الرقابة على نشر مذكرات العسكريين باختلاف اتجاهاتهم الفكرية والسياسية قد أسهمت في تفاوت ملامح الصورة عن تلك الفترة وبونابرت خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، فإن حالة انفراجة برزت مع بداية القرن العشرين، وهيأت فرصة نشر وثائق بطريقة أكثر استقلالية، حسبما أشار الفرنسي لاجونكيير في دراسته “حملة مصر”، المؤلفة من خمسة مجلدات نشرها بين عامي 1897 و 1906.
ويقول لاجونكيير: “أعاقت الظروف الحرجة لفرنسا في تلك الفترة نشر الحقائق، والآن وبعد مرور قرن على الحملة، فقد الجدل بشأنها جدواه، وتراجعت الأسطورة، وأصبح التاريخ الموضوعي المحايد كتابا مفتوحا”.
عكست كتابة تاريخ حملة بونابرت على مصر تخبطا تاريخيا على الصعيدين العسكري والسياسي خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، فإن كان الاتجاه الثوري في كتابة تاريخ تلك الحملة قد تراجعت قوته مع عودة الملكية لفرنسا، إلا أن النصف الثاني من نفس القرن شهد إنطلاقة جديدة لهذا الاتجاه في الكتابة، لاسيما في أعقاب ثورة 1871 وتأسيس الجمهورية الفرنسية الثالثة عام 1880.
Getty Imagesمراسم تتويج بونابرت إمبراطورا لفرنسا عام 1804
وتقول ليلى عنان، أستاذ الحضارة الفرنسية بجامعة القاهرة، في دراستها “الحملة الفرنسية تنوير أم تزوير؟” إن أسباب الحملة الفرنسية على مصر كأي حدث، تاريخي أو غير تاريخي، تتشعب أسبابها وتعود جذورها إلى ماض سحيق.
وتضيف عنان: “البعض يراها آخر الحروب الصليبية، ويرى البعض الآخر أنها أول موجات الغزو الاستعماري الأوروبي الكاسح في القرن التاسع عشر، لكن بعض المؤرخين يتعاملون معها كحدث ثانوي، ويمرون عليها مرور الكرام وهم يسردون تاريخ فرنسا، والبعض الآخر يتعامل معها منفصلة عما سبقها أو لحقها من أحداث، كأنها ثمرة أتت من فراغ، دون شجرة تحملها، اللهم إلا بعلاقتها بقائدها الشهير (بونابرت) الذي أصبح إمبراطورا غيّر مجرى الأحداث في أوروبا كلها”.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.