لعلها مجرد صدفة قاسية، لكنها في النهاية تحمل الكثير من ألغاز وأسرار الوضع الصحي للرئيس الجزائري. آخر ظهور رسمي لبوتفليقة كان خلال استقباله لرئيس الحكومة الفرنسية مانويل فالس، قبل أسبوعين، وظهر في صورة شاحبة جراء المضاعفات الصحية التي يعاني منها، قبل ان يعلن، زوال أمس الأحد، قصر المرادية عن نقل "الرئيس" إلى أحد المستشفيات السويسرية بعد تدهور حالته الصحية من جديد. الجلطة الدماغية التي تم الحديث عنها سنة 2013، لم تكن سوى آخر الأمراض التي يفترض أن الرئيس الجزائري يعاني منها، والتي قد تجعله غير قادر على تأدية الأدوار الأساسية التي يقوم بها شقيقه "سعيد بوتفليقة"، كانت للمرض تأثيرات أخرى على نظام الحكم بالجزائر...
الرئيس الجزائري مريض. هذه هي المعلومة الوحيدة المتأكد من صحتها، أما طبيعة المرض، وتفاصيل الحالة الصحية للرئيس بوتفليقة، فإنها تبقى في الكثير من تفاصيلها، خاضعة لقانون الصمت الثالثي، وللسرية المبالغ فيها، كما كثير من ملفات وطرق تدبير الشأن العام. الحالة الصحية للرئيس الجزائري تحولت إلى شأن عام يحظى باهتمام محلي وإقليمي، مند سنة 2005، حين تم نقل عبد العزيز بوتفليقة إلى المستشفى العسكري «فال دو غراس» في 27 أبريل 2013، ثم إلى مستشفى «ليزانفاليد» في ماي من نفس السنة، «لمواصلة نقاهته» حسب وزارة الدفاع الفرنسية. ... حينها، لم تكن هناك أية معطيات دقيقة، حول طبيعة مرض الرئيس الجزائري، حول حالته الصحية ودرجة خطورة المرض، لتسارع بعض وسائل الإعلام في ظل تلك الظروف، إلى الحديث عن تلقي بوتفليقة لعلاج «مضاعفات داء سرطان المعدة»، قبل أن تخرج السلطات الجزائرية، عبر وكالة الأنباء الرسمية، عن صمتها، لتقول ببساطة، إن: «الرئيس عبد العزيز بوتفليقة تعرض لجلطة دماغية «عابرة» ويجب أن يخضع للراحة». وكالة الأنباء الجزائرية، نقلت حينها، عن «مدير المركز الوطني للطب الرياضي، البروفسور رشيد بوغربال» تصريحا قال فيه إن:«رئيس الجمهورية السيد عبد العزيز بوتفليقة تعرض اليوم السبت في الساعة 12.30 لنوبة دماغية عابرة لم تترك آثارا».
من سرطان المعدة إلى مرض الكلي والاكتئاب تاريخ من المرض
... الحديث عن إصابة الرئيس الجزائري بسرطان المعدة لم يكن مجرد خطأ في تشخيص حالة بوتفليقة قبل إصدار السلطات الجزائرية لتوضيحات ومعطيات تفيد تعرضه «لجلطة دماغية عابرة وغير ذات أثر». سرطان المعدة، كما مستشفى «فال دو غراس»، ظلا على امتداد سنين، عنوانا أساسيا للكثير من تفاصيل الحالة الصحية للرئيس الجزائري. ففي 26 نونبر 2005، سينتقل الرئيس الجزائري، رفقة شقيقه سعيد، الرجل القوي في نظام بوتفليقة، إلى فرنسا، وبالضبط إلى مستشفى «فال دو غراس»، ليتم الحديث حينها كما تؤكد بعض كابلات ويكيليكس المسربة عن إصابته بسرطان المعدة، في مراحل متأخرة، في حين تحدثت الروايات الرسمية، عن «خضوع بوتفليقة نهاية 2005 لعملية جراحية لعلاج «قرحة أدت إلى نزيف في المعدة»، في مستشفى فال دوغراس العسكري في باريس». بعد ذلك بحوالي سنة، سيؤكد عبد العزيز بوتفليقة شخصيا، أنه بالفعل كان «مريضا جدا»... لكنه تعافى تماما. الأمور لم تقف عند هذا الحد، وإضافة إلى سرطان المعدة أو القرحة التي أدت إلى نزيف حاد، ستتحدث مصادر أخرى عن إصابة الرئيس الجزائري أيضا بمرض مزمن في كليتيه، وأن هذا المرض، يفرض على بوتفليقة إجراء غسيل منتظم لكليتيه، إضافة إلى ضرورة الانتظام في تعاطي أدوية تقلل من مضاعفات المرض وتعقيداته، خصوصا مع تقدم الرئيس في العمر. أكثر من ذلك، نقلت بعض وسائل الإعلام، عن مصدر وصفته ب «الصديق الشخصي والمقرب من بوتفليقة» قوله إن الرئيس الجزائري يعاني منذ شبابه من مرض «تكلس الكلي». في المقابل، تحدثت وسائل إعلام كثيرة، بما فيها وسائل إعلام جزائرية، عن أن المشرفين على صحة بوتفليقة دأبوا منذ مدة على تقديم «مقويات في غاية التركيز» للرئيس الجزائري، كي تساعده على أداء بعض مهامه العمومية، من قبيل استقبال بعض الضيوف، أو الظهور على شاشة التلفزة. ... لم يعد الأمر سرا رغم محاولات الجزائر المتعددة لإبقاء طبيعة مرض الرئيس طي الكتمان. كل المعطيات المتوفرة حول الموضوع تشير بكامل الدقة إلى أن الرئيس بوتفليقة، كان يعاني منذ 2005 من مرض بالكلى وسرطان في المعدة وأنه كان يعاني من الاكتئاب أيضا. أما الحديث عن الجلطة الدماغية التي وصفتها السلطات الجزائرية ب «العابرة» والتي «لم تترك أثرا»، فإنه في النهاية، يبقى آخر الأمراض التي أضيفت خلال السنة الماضية إلى لائحة الأمراض المفترضة التي يعاني منها بوتفليقة.
الجلطة الدماغية: ضربة من العسكر؟ المثير في حكاية الجلطة الدماغية هنا، هو السياق الذي جاءت فيه. بحسب مهتمين بالشأن الجزائري وإعلاميين جزائريين، فإن الحكاية هنا ابتدأت قبل الإعلان عن إصابة بوتفليقة بجلطة دماغية، وأن الأمر يتعلق بالأساس، بالصراع القائم في الجزائر، بين مؤسسة الرئاسة... والمؤسسة العسكرية. في ظل هذا الصراع، ووسط ما اعتبره «إينياسيو سمبريرو»، في استجواب خص به «الأيام» في هذا العدد، بالضربات القوية والتاريخية التي وجهها بوتفليقة للمخابرات العسكرية، خصوصا في ما يتعلق بالحد من نفوذها وسلطاتها، وإقالة بعض كبار مسؤوليها... في وسط هذه الأجواء، سيتم تسريب أنباء، بدت حينها شبه مؤكدة، تتحدث عن أن الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة قد قام بإقالة شقيقه «سعيد بوتفليقة» الذي يعتبر الحاكم الفعلي للجزائر منذ سنة 2005، تاريخ إصابة بوتفليقة بسرطان المعدة. هذه الأنباء، كانت في النهاية، على ما يبدو، مجرد مناورة سياسية قامت بها المؤسسة العسكرية ضد المؤسسة الرئاسية، لكن المثير هنا هو أن بعض المعطيات، تفيد أن هذه الأنباء التي تحدثت عن إقالة سعيد بوتفليقة صدرت يوما واحدا فقط قبل إصابة الرئيس الجزائري بالجلطة الدماغية... وهو ما دفع ببعض المصادر الإعلامية إلى اعتبار ذلك السبب الرئيسي والمباشر في ما حدث للرئيس الجزائري، وفي تدهور حالته الصحية. في هذا السياق، نذكر مثلا تصريحا كان قد أدلى به الإعلامي التونسي المقيم في بريطانيا، عادل الحامدي، لقناة العالم الإخبارية، قال فيه بالحرف: « للأسف تم إصدار بيان قيل إنه مزيف عن إقالة الرئيس بوتفليقة لشقيقه، وتقول المصادر إن بوتفليقة عندما سمع الخبر أصابته هذه الجلطة».
بوتفليقة المريض بوتفليقة القوي
بين 1999، تاريخ انتخاب عبد العزيز بوتفليقة رئيسا للجزائر لأول مرة، و2014، تاريخ نهاية الولاية الثالثة للرئيس، ظلت أخبار المرض والأسئلة التي ترافقها أكثر حضورا سواء داخل الجزائر، أو داخل محيطها الإقليمي. منذ 27 أبريل 2013، تاريخ نقله إلى مستشفى «فال دو غراس» العسكري بفرنسا، ظل غياب الرئيس الجزائري يشكل القاعدة العامة للحياة السياسية في الجزائر، وظل حضوره، أو حضور بعض صوره، يمثل الاستثناء الذي... يؤكد هذه القاعدة. غاب بوتفليقة عن جميع المحطات والمناسبات الوطنية والدينية للبلاد. الإعلام الرسمي الجزائري ظل في الغالب ينقل صورا «صامتة» للرئيس الجزائري، في حين غاب صوت بوتفليقة، منذ زمن... قبل أن يحدث الأمر الأسوأ في الحكاية، حين كشفت قناة «كنال بلوس» أن التلفزيون الجزائري قام بعمل مونطاج لصور بوتفليقة خلال استقباله للوزير الأول الفرنسي في دجنبر الماضي. ... غاب الرئيس، وغابت معه أدواره المؤسساتية. بوتفليقة لم يقم بالتوقيع على قوانين هامة، من قبيل قانون المالية التكميلي لسنة 2013 وقانون تعديل الدستور، إضافة إلى مواعيد سياسية واقتصادية عديدة ومختلفة. في ظل هذه الأجواء، ستعلن «جبهة التحرير الجزائرية» عن قرار مفاجئ وغير منتظر، حين أعلنت رسميا عن أن مرشحها لرئاسيات 2014 المنتظرة في أبريل المقبل، لن يكون سوى... عبد العزيز بوتفليقة. في المقابل، طالبت بعض أحزاب المعارضة والصحافة المستقلة بالجزائر بتفعيل المادة 88 من الدستور، والتي يتعلق مضمونها ب «فراغ في السلطة لأسباب صحية وتنظيم انتخابات جديدة في غضون ثلاثة أشهر». «جمال بن عبد السلام»، رئيس حزب «جبهة الجزائرالجديدة»، قال في تصريحات لفرانس 24، إن : «ما يحدث في الجزائر هو من المضحكات المبكيات»، وإن «البلاد تعيش أزمة لكن النظام الذي انتهت صلاحيته يرفض الاعتراف بها»، مضيفا في نفس السياق أن حالة الرئيس الصحية لم تعد تسمح له بأداء مهامه، وأن: أكثر من ذلك، ذهب «جيلالي سفيان»، رئيس حزب «جيل جديد»، بعيدا، حين قال:«الرئيس بوتفليقة عاجز عن ممارسة مهامه، غير أن الزمرة المحيطة به تصر على إبقائه في الحكم والتمديد له». غياب الرئيس الجزائري، مرضه، عدم قدرته على أداء مهامه... الأمر هنا ليس حدثا جديدا، فمنذ 2005، سيعلم الجزائريون، ومعهم كل المهتمين بالشأن الجزائري، أن صحة عبد العزيز بوتفليقة ليست على مايرام، وأن الحديث عن خلافته، وعن الحاكم الفعلي للجزائر، لم يعد مجرد حديث صالونات، بل انتقل إلى العلن، وأصبح حديث الناس والشارع. المهتمون بالشأن الجزائري يعرفون أن الحاكم الفعلي للبلاد هو «سعيد بوتفليقة»، شقيق الرئيس الجزائري، الرجل القوي في البلاد، والممسك بجميع خيوط الحكم، بدءا من صفقات السلاح، مرورا بأسواق وصفقات الغاز والبترول وكل القطاع الاقتصادي، وانتهاء بدوره في ضبط التوازنات مع المؤسسة العسكرية وتحجيم أدوارها. ... في الجزائر، يمكن القول إن عبد العزيز بوتفليقة أصبح أكبر الغائبين، بسبب المرض وتدهور الحالة الصحية، لكن في المقابل، هناك بوتفليقة قوي، يحكم ويضبط إيقاعات البلاد... هو سعيد بوتفليقة.