سبق للسيدة الوزيرة بسيمة الحقاوي أن صرحت في البرلمان المغربي تفاعلا مع سؤال إحدى البرلمانيات بقولها : "أنا مع أن نثبت العلاقة الترابطية بين الفاعل والطفل. يعني أن نستعمل اليوم تحليل الحمض النووي لأجل أن نجد لكل طفل أباه. أو على الأقل. المسؤول على إنتاجه. أما هل علماء الشرع سيقبلون إثبات النسب أم لا ؟ فهذا خارج دائرة اختصاصي. إنما أنا مع إثبات العلاقة الترابطية بين الرجل والابن". هذا التصريح لم يكن ليمر دون أن يترك زوابع وعواصف خلفه. خصوصا من العلماء و"العلماء". إضافة إلى المنابر المحافظة، أو الموغلة في المحافظة، وفي هذا السياق، صدرت تصريحات من قبل ثلة من الباحثين، نشرت في حينها. وبعد مرور فترة ليست باليسيرة. أعاد نشرها موقع هوية بريس يوم أمس بعنوان يحمل حمولة تجييشية ضد الوزيرة المذكورة. نشر أمس الموقع المذكور تغطية صحفية بقلم السيد عبد الله مخلص بعنوان : استنكار العلماء الرسميين وغير الرسميين لتصريح بسيمة الحقاوي حول الأب البيولوجي واختبار ADN. ومن يقرأ العنوان يخال أن العلماء و"العلماء" المغاربة انتفضوا عن بكرة أبيهم، رفضا لتصريح الوزيرة. والواقع أن الأمر لا يعدو أن يكون تصريحات وكتابات. بعضها غير علمي. صادرة عن ثلاثة نفر من المنتسبين إلى الحقل العلمائي. وأن العنوان ليس إلا تضخيما للأمر. استعمالا لتقنية التجييش الإعلامي ضد السيدة الوزيرة. ومحاولة حشرها في خانة المناقضين للمرجعية الإسلامية. وهذا ليس بمستغرب من موقع موغل في المحافظة أولا. ومقرب من السلفية المغربية ذات الميول السعودية ثانيا. بالنسبة للعلماء المذكورين في التغطية. أحدهم عضو في المجلس العلمي الأعلى. وهو العلامة الفاضل الوجيه سيدي مصطفى بنحمزة رضي الله عنه. والآخران ينسبان إلى الجسم العلمائي، وهما السيد رشيد بنكيران والسيد البشير عصام. مما يجدر التنبيه إليه. أن السيدة الوزيرة أجابت في البرلمان مستعملة اختصاصها الدستوري. وطرحت فكرة جديدة. وهذا من حقها. وحرصت أشد الحرص على احترام الجسم العلمائي. دون أن تمس بكيانه أو هيبته. فقالت : "أما هل علماء الشرع سيقبلون إثبات النسب أم لا ؟ فهذا خارج دائرة اختصاصي". هذا كلام الوزيرة. وهذا أدبها. وهذا احترامها. فهل تعامل معها "العلماء" بالاحترام الواجب. والأدب اللائق؟ لقد تجاوز بعض المذكورين حدود اللباقة في مناقشة الأمر. وصدرت عنهم عبارات غير لائقة. وغير مهذبة في حق السيدة الوزيرة وتيارها السياسي. وقد حذر "العلامة" البشير عصام "الإسلاميين الذين اختارهم الناس للإصلاح العميق للأعطال المجتمعية الكبرى، من أن يتحولوا إلى مناشف تستر سيلان الماء". يا لبلاغة "العلماء"! ويا لحسن أدبهم! وكعادة السلفيين المغاربة. فإنهم لا يمكنهم الحديث عن قضية ولو كانت فروعية مختلف حولها، دون أن يضخموها باستعمال الألفاظ الطنانة والعبارات القوية الخطيرة. وأحكام القيمة. لذا لجأ "العلامة"رشيد بنكيران إلى معجمه الأثير. وكأنه يناقش قضية عقدية مجمع عليها. أو قضية من الأصول الكبرى. فاعتبر تصريح الوزيرة بأنه "تنصل سافر من الشرع. وجرأة صريحة عليه. فقد تبنت موقفا في أبوة الزاني دون اكتراث بحكم الشرع في الموضوع". وليسمح لنا القارئ الكريم بتفكيك هذا الخطاب المكثف جدا. 1. تنصل من الشرع. تمعنوا وتأملوا. تنصل من الشرع. 2. جرأة صريحة على الشرع. تأملوا. جرأة صريحة وغير مستترة على الشرع. 3. لم يكترث بحكم الشرع. أي نعم. عدم اكتراث بالشرع. ولعمري. لقائل أن يقول : ما معنى التنصل من الشرع؟ أوليس تكفيرا صريحا للسيدة الوزيرة!؟ ما معنى الجرأة الصريحة على الشرع؟ أليس تفسيقا واضحا للسيدة الوزيرة؟ وما معنى عدم الاكتراث بحكم الشرع؟ أعرف أن هذه العبارات ليست إلا سبق قلم من "العلامة" المذكور. وفلتة لسان ليس إلا. وأنا متأكد أنه لا يقصد تكفيرها وإخراجها من الملة. ولكن الدورة الدموية للسلفيين لا يمكن أن تنتج إلا هكذا خطاب. لأنها متكونة من الكريات البيضاء والكريات الحمراء والكريات التكفيرية. يسترون منهجهم التكفيري ويعملون جاهدين على إخفائه. وسرعان ما يظهر منهم في أول فورة حوارية. وإذا تجاوزنا سوء الخلق والعقلية التكفيرية عند هذين "العالمين". فإننا نعمد إلى مناقشة أستاذ الأجيال. العلامة المتخلق. سيدي مصطفى بنحمزة حفظه الله تعالى. والذي وإن اختلفنا معه. فلن يؤثر اختلافنا في تقديره وحبه وإجلاله. انتقد العلامة سيدي مصطفى بنحمزة الوزيرة المحترمة. وقال حسب الموقع المذكور: إن إعطاء الجنين ما يسمى البنوة البيولوجية عقب فحص البصمة الوراثية صك رسمي لهذا المولود بأنه ولد الحرام. وأن هذا المولود سيحرج ويخزى مدى حياته بسبب هذا الإشهاد. نعم. ولكن. إن عدم إعطاء الجنين ما يسمى البنوة البيولوجية اعتمادا على فحص البصمة الوراثية هو كذلك صك رسمي لهذا المولود بأنه ولد الحرام. وهذا إحراج له وخزي طيلة حياته. لنتصور أن ابنا عاش حياته بأم دون أب. ولنتصور ابنا آخر عاش حياته يعرف أباه ولو أنه انتسب إليه بعد الفحص. أيهمى أقسى؟ يجب علينا ألا نفر من الواقع. مرة كنت في إحدى المؤسسات التعليمية نناقش ما ورد في الخطة الوطنية لإدماج المرأو في التنمية. وكنت حينها منتقدا لها ولصاحبها. وتكلمت عن الأمهات العازبات والأبناء الطبيعيين. فثار في وجهي أحد التلاميذ. وتكلم بهستيرية غريبة. وأيد كلامي. بعدها. تقدم إلي مدير المؤسسة. وأخبرني بأن التلميذ مجهول الأب. عانيت نفسيا من كلامي، لأنه وقع عليه موقعا نفسيا قاسيا وخطيرا أمام زملائه. هنا. في حالة التلميذ. لا وجود لأبوة بيولوجية. ولكن. في يده صك رسمي أنه ولد الحرام. بمعنى أن هذا الصك موجود بيننا. ولا نستطيع منعه بمنع الأبوة البيولوجية. الهروب إلى الأمام لا يحل المشكلة. وعضد العلامة بنحمزة موقفه الرافض لمقترح الوزيرة بأن استفادة هذا الابن من الإرث يؤدي إلى تضييع حقوق الورثة. ويؤدي إلى تفكيك كل نظام الإرث في الإسلام. ولعل هذا الكلام خرج من العلامة بنحمزة من باب التهويل والتحذير. وإلا فإن الاجتهاد في هذا المجال لا يؤثر على منظومة الفرائض ولا يفككها ولا يهدمها. وللإشارة. فإن تثبيت وتقنين الوصية الواجبة يتضمن إضرارا بالورثة. ومع ذلك قبلتها القوانين المعتمدة في البلاد الإسلامية. وبقيت المنظومة الفرضية وسلمت من الانهيار. مع أن هذه الوصية قد تستحوذ على ثلث التركة. وأعطى القانون المغربي حق الوصية الواجبة حتى لأبناء البنت. وهو ما كان مرفوضا في السابق. وانصاع المغاربة لهذا التقنين. ولم يحتجوا بدعوى الإضرار بالورثة. أو خطورة تفكيك المنظومة. ثم إن منع ابن الزنا من الإرث يستند على حديث الولد للفراش وللعاهر الحجر. وهذا حديث ظني الثبوت ظني الدلالة. ظني الثبوت لأنه آحاد. ظني الدلالة لأنه ليس نصا صريحا في المسألة. وقد أوله بعض العلماء. منهم إسحاق بن راهويه. بدعوى أن الحديث صدر في سياق الحكم في النزاع بين الزاني وصاحب الفراش. أما إذا لم يكن هناك صاحب فراش. ولم يكن هناك نزاع. فلا سبيل للاستدلال بهذا النص. وبالمناسبة. فإن هذا الرأي تبناه عروة بن الزبير وسليمان بن يسار والحسن البصري أيضا. وانتصر له ابن القيم. وعلى فرض أن الحديث قطعي الدلالة أو الثبوت أو هما معا. فإن هذا لا يمنع من الاجتهاد. أليس في المنظومة القانونية المغربية ما يخالف النصوص القطعية؟ فلماذا لا نتحرج في شأنها. ونتحرج من هذه النازلة ؟ بل إن مخالفة النصوص قطعيها وظنيها ليست منحصرة في منظومتنا القانونية. بل هو عمل جاري به العمل منذ الصحابة رضي الله عنهم. ألم يخالف الصحابي معاوية بن أبي سفيان النص الموجب للشورى. وهو قطعي الثبوت وقطعي الدلالة. وفرض على الأمة ابنه الذي لا يساوي بصلة إماما وقائدا وزعيما؟ ختاما. أؤكد على مسألة مهمة. وهي أنه من حق "العلماء" والعلماء أن يعارضوا السيدة الوزيرة. لكن. من الواجب عليهم أن يلتزموا بالأدب أولا. وأن يجتنبوا العبارات التي قد يلزم منها التكفير والتفسيق والتبديع ثانيا. لأنها لا تفيد إلا في تجييش العامة على الخصم فقط. وهذا أبعد ما يكون عن أسلوب المناظرة والمجادلة بالحسنى. كما أوجه ندائي للعلماء الفضلاء أن يناقشوا المسألة بعمق. وأن يقلبوا النظر من جميع الجهات. وأن يستحضروا المصالح والمفاسد في المسألة. وأن يستحضروا المآسي المجتمعية المرتبطة بها. وأن يبتعدوا عن لغة التهويل. والتخويف من انهيار منظومة الإرث . وأن يستحضروا أن كل المواضيع قابلة للنقاش. وعليهم حفظهم الله أن يستحضروا الزمن القريب. وما بالعهد من قدم. حيث كانوا يرفضون مجرد فتح النقاش في قضية الإجهاض. ولما استدعى الملك وزيره في العدل والأوقاف لمناقشة المسألة. فتحوا النقاش. وقبل ذلك. لم يكن يدور بخلد أحدهم إعطاء أبناء البنت نصيبا في الوصية الواجبة. وهاهم اليوم ينظرون إلى استفادتهم. والله من وراء القصد. وهو يهدي إلى سواء السبيل