توصل العلماء إلى استنتاج صورة وراثية مدهشة للسلف المشترك لجميع الكائنات الحية، إذ يقولون إن ذلك الشبه يسلط الضوء على سر ظهور الحياة الأولى على سطح الأرض. وكان هذا السلف عبارة عن بكتيريا حية وحيدة الخلية، ويُختصر اسمها إلى "لوكا"، والتي تعني السلف الأخير المشترك للعالم (Last Universal Common Ancestor)، وتشير التقديرات إلى أن هذه البكتيريا كانت تعيش منذ 4 مليارات سنة، حينما كان عمر الأرض وقتها قرابة 560 مليون سنة تقريباً. ويزيد الاكتشاف الجديد من الجدل بين من يؤمنون بأن الحياة قد بدأت في بيئة قاسية –حفر في أعماق البحار أو في باطن البراكين- وبين من يرون أنها بدأت في ظروف طبيعية أكثر كالبرك الحارة، وهو ما افترضه داروين بحسب تقرير لصحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية. وكانت طبيعة "آخر سلف مشترك لجميع الكائنات الحية" أمراً غير مؤكد لوقت طويل، إذ كان يبدو أن الأوساط الثلاثة للحياة (العتائق والبكتيريا وحقيقيات النوى) ليس لها أصل مشترك. تتشابه العتائق والبكتيريا ككائنات ولكن بتمثيل غذائي مختلف، في حين تشمل حقيقيات النوى جميع النباتات والحيوانات. واتجه المتخصصون في الآونة الأخيرة للاعتقاد بأن البكتيريا والعتائق كانتا الوسيطين الأولين للحياة، وأن حقيقيات النوى ظهرت في وقت لاحق، وهو ما فتح الباب أمام مجموعة من علماء الأحياء التطورية، بقيادة ويليام مارتن وهاينريش هاينه بجامعة دوسلدورف الألمانية، لمحاولة إدراك طبيعة الكائن الحي الذي خرج منه وسط البكتيريا والعتائق. كانت نقطة البداية بالنسبة للعلماء هي الشفرة البروتينية للجينات المعروفة من البكتيريا والعتائق. ويملك العلماء قرابة 6 ملايين من هذه الجينات جُمِعت خلال العشرين عاماً الأخيرة في بنوك بيانات الحمض النووي مع أجهزة جديدة لفك تشفير الحمض النووي منحتهم تسلسل الجينات من آلاف الميكروبات. الجينات التي تفعل الوظيفة نفسها داخل الإنسان وحيوان كالفأر على سبيل المثال غالباً ما ترتبط بأصل مشترك عبارة عن سلف جيني في أول حيوان ثديي. لذلك، بمقارنة تسلسل الحمض النووي، يمكن ترتيب الجينات في شجرة العائلة التطورية، وهي الخاصية التي مكنت ويليام مارتن وزملاءه من تحويل 6 ملايين من الجينات إلى عدد أقل بكثير من الأسلاف الجينية. من بين هذا العدد الكبير، وُجِد أن 355 جيناً فقط تتطابق معاييرها مع احتمال رجوع أصلها ل"لوكا"، أو السلف المشترك للبكتيريا والعتائق. تتكيف الجينات بحسب بيئة الكائن الحي. لذلك، كان مارتن يأمل أنه من خلال تحديد الجينات التي كانت موجودة في لوكا، سيكون قادراً على فهم المكان والطريقة التي عاشت بها، ويقول "كنت مندهشاً من النتيجة، لم أستطع أن أصدقها". وأشارت الجينات ال355 إلى كائن حي واحد عاش في ظروف تتوفر في حفر في أعماق البحار، حيث الغازات والحرارة المرتفعة للغاية الناتجة من تفاعل المياه مع الحمم البركانية المنبعثة من قاع المحيط. وتحيط بالفتحات الموجودة في أعماق البحار أشكال الحياة غير المألوفة، ومع طبيعتها الكيميائية القاسية، كان من الواضح لفترة طويلة أنها كانت المكان الذي نشأت فيه الحياة الأولى. وتتضمن الجينات ال355 المنسوبة للوكا بعض الجينات التي تستخدم الهيدروجين كمصدر للطاقة، بالإضافة إلى جين لإنزيم يحمل إسم reverse gyrase، وهو جين لا يوجد سوى في الميكروبات التي تعيش في درجات الحرارة المرتفعة للغاية، بحسب ما نشره مارتين وفريقه الإثنين الماضي بمجلة Nature Microbiology العلمية. يقول جيمس مكاينيرني، أستاذ الأحياء التطورية بجامعة مانشستر "يمثل هذا تقدماً مذهلاً لفهمنا لحياة لوكا، وهي نظرة مثيرة للغاية للحياة قبل أربعة مليارات سنة". الصورة التي رسمها د.مارتن أثارت الإعجاب، لكنه اتخذ خطوة إضافية أثارت الكثير من الجدل. يعتقد مارتن أن لوكا شديد الشبه بأصل الحياة نفسها. كما كتب مشيراً إلى غياب الكثير من الجينات الأساسية للحياة عن هذا الكائن، ما يدفعه للاعتماد على مركبات كيميائية من بيئته، أي أنه "نصف حي" فقط. كما استنتج د. مارتن أن اعتماد لوكا على الهيدروجين والمعادن يرجح كفة بيئة أعماق البحار كبيئة لنشأة الحياة، بدلاً من بيئة اليابسة التي أشارت إليها أحد النظريات المنافسة التي افترضها الكيميائي جون ساذرلاند من جامعة كامبريدج في إنجلترا. بينما يؤمن آخرون أن لوكا الذي يصفه د.مارتن كان كائناً متطوراً للغاية بالفعل، ظهر بعد نشأة الحياة، أي بعد تشكل المنظومات الحية من المركبات الكيميائية التي تواجدت على الأرض مبكراً. وقال جاك زوستاك، من المستشفى العام بماساشوستس، أن لوكا ونشأة الحياة هما "حدثان تفصلهما مسافة شاسعة من التطور"، وكان زوستاك قد درس كيفية نشأة أغشية الخلايا الأولية. تُظهر بيانات د.مارتن أن بإمكان لوكا القيام بالمهمة المعقدة الممثلة في تصنيع البروتينات. لذا من غير المرجح ألا يكون قادراً على صناعة المركبات الأكثر بساطة أيضاً، على الرغم من عدم اكتشاف هذه الجينات بعد، كما يرى ستيفن أ. بينر من مؤسسة التطور الجزيئي التطبيقي الذي أضاف قائلاً "كأنك تقول أن بإمكانك بناء بوينغ 747، لكن لا يمكنك صقل الحديد". أما د. ساذرلاند فلم يعط سوى القليل من المصداقية للفرضية القائلة بأن لوكا ربما يوجد في المنطقة الرمادية بين الحياة واللاحياة، فقط لأنه اعتمد على بيئته للحصول على بعض المركبات الأساسية.. "كأنك تقول إنني نصف حي لأني أعتمد على محل البقالة". لا يجد د.ساذرلاند والآخرون مشكلة في تتبع وجود لوكا إلى فتحات أعماق البحار، لكنهم يقولون إن هذا لا يعني نشأة الحياة هناك. يمكن للحياة أن تكون قد نشأت في أي مكان، واقتصرت على بيئة أعماق البحار في وقت لاحق بسبب كارثة مثل الكارثة القمرية أو القصف الشديد المتأخر الذي وقع قبل حوالي 3.8 إلى 4 مليارات سنة، حين اصطدمت بالأرض أمطار من النيازك بقوة حولت المحيطات إلى ضباب. الحياة شديدة التعقيد، ويبدو أنها احتاجت ملايين الأعوام للتطور. مع ذلك، تعود الأدلة التي وُجدت لأولها إلى 3.8 مليار سنة، وكأنها ظهرت في اللحظة التي توقف فيها قصف النيازك. اللجوء إلى عمق البحار خلال القصف ربما سمح بفترة أطول لتطور الحياة. لكن الكيميائيين من أمثال د. ساذرلاند لا يشعرون بالراحة تجاه عمل الكيمياء التي تسبق التكوين الجنيني (Prebiotic) في المحيط، القادر على تخفيف المكونات الكيميائية قبل أن تجتمع لتشكل جزيئات الحياة المعقدة. كما وجد د. ساذرلاند، بالاعتماد على مبادئ الكيمياء الأساسية، أن الأشعة فوق البنفسجية القادمة من الشمس هي أحد المصادر الرئيسية للطاقة اللازمة لحصول التفاعلات الصحيحة، ولذلك فإن البرك الطبيعية الموجودة في الأرض هي البيئة المرجحة لنشأة الحياة، لا المحيطات. وأضاف موبخاً د.مارتن لعدم قيامه بأي نوع من المحاكاة الكيميائية لدعم فرضية أعماق البحار "لم نبدأ بفرضية مفضلة، بل استنتجناها من الكيمياء". واستطرد قائلاً إن صورة د.مارت للوكا "مثيرة للاهتمام، لكن لا علاقة لها بنشأة الحياة الفعلية". – هذا الموضوع ترجمته "هافنغتون بوست" عن New York Times الأميركية.