كان المغاربة منذ القرن السابع عشر ينظرون إلى أوروبا وهي تتحول وتتقدم نحوهم على رقعة الأرض بل وهم يتراجعون أمامها ولكنهم لم يفكروا يوما في الأخذ بعلومها وتقنياتها وأساليب الحكم والفكر بها وثقافتها ليتقدموا هم أيضا. يبدو لي أنهم انقسموا إلى صنفين أساسيين ولا زالوا إلى اليوم كذلك. صنف يتشبث بالماضي مطلقا ولا يريد أن يدخل مع بلاد الكفر في أية علاقة حتى لا يتأثر إيمانه، وصنف كان يقبل بعضا من المنجزات المادية لأوروبا الحديثة ولكنه يتردد في الأخذ بأساليب الحكم والتدبير والتفكير التي كانت هي أساس هذا التقدم. ولكن الغريب في الأمر هو أن كلا الفريقين كان يُقبل على المنجزات الأوروبية عندما تصبح جزءا من التاريخ أي عندما تصبح متجاوزة في أوروبا وتصبح مادة لتدريس تاريخ العلوم أو السياسة أوالفكر أو الفلسفة أو حتى الأدب والفن. لا يُقبل المغاربة على هذه الأمور إلا عندما تصبح مكرسة وعندما يجربها الجميع وعندما تنتهي صلاحيتها. يحدث هذه في السياسة والفلسفة وحتى في التكنلوجيا. لايكون المغاربة من المبادرين لخوض المغامرات الأولى مع الذين يركبون التجارب الرائدة. لايركبونها ويجعلون من هذا الموقف ميزة يتباهون بها أمام الأمم. فكم من مرة نسمع الناقد، والمؤرخ وأستاذ الفلسفة ينهر الشباب من طلبته وينصحهم بالابتعاد عن الموضة وركوب التقليعات الفكرية والالتزام بالفكر الرصين. هذا التصرف والذي يجد جدوره في المواقف الفقهية للقرون الغابرة يقمع المغامرة وروح الإبداع. في السياسة لا يغامر المغاربة أيضا. هناك بالمغرب اليوم حزب كبير يتقلد شئون السياسة و يصرح أمام التاريخ بأنه تقليداني ويفتخر بذلك وهذا من حقه لكن الأمر يدعو إلى التفكير عندما نرى أن القوى التي تتهيأ في المقابل لتكون بديلا له في المستقبل تبني فلسفتها في الحكم على الماضي والحاضر؛ الأصالة والمعاصرة. هذا المصطلح الذي أسس له الراحل علال الفاسي (والذي بالمناسبة كان شعار السلفية آنذاك) يعني أن نأخذ من أوروبا الأواني دون المعاني. أي نأخذ كل وسائل الإنتاج ووسائل السيطرة على المحكومين دون أن نأخذ بالفكر والثقافة ووسائل الحكم والتدبير والتفكير التي أنتجت تلك الأدوات. هذه هي المفاهيم المؤسسة للقوى التي تسعى إلى أن تكون بديلة للتقليدانيين الذي يوجدون اليوم على رأس الحكومة. اليوم يبدو جليا أن أولئك المنادون بالأصالة والمعاصرة قد يتجمعون في تكثل، وأقصد بهم حتى الأحزاب الاشتراكية، وفي مقابلهم يمكن أن يتكثل حزب المصرحون بتقليدانيتهم في قطب صريح. وهكذا سوف تبقى السياسة تتأرجح بين ماض سحيق ووصفة تقترب من الحاضر بالقدر الذي يسمح به الماضي. وهناك مجموعة من الأحزاب الأخرىذات الوجهين(القديم والجديد) والتي تستعمل كجوكيرات لخلق التوازن كما هو الحال اليوم. هذا هو الاستثناء المغربي. لكن المشكلة تصبح أكثر تعقيدا عندما نكتشف أن هذه النزعة قد انتقلت للفكر والأدب والفلسفة والفن كذلك. أي أنها انتقلت لما يمكن أن نعتبره الفئات الطليعية في المجتمع؛ تلك الفئات التي من المفروض فيها أن تناوش برك السياسة الآسنة وتدفعها للتفكير وإعادة النظر في آلياتها. هذه الفئات تستكين هي الأخرى إلى التقليد. أي الاقتصار على المكرس أو الذي انتهت صلاحيته وأصبح في نطاق المضمون أو المحمود العواقب. عندما نلقي نظرة على ما يدرس في جامعاتنا وأقتصر هنا على ميدان الفلسفة، نكتشف أن ما يعرض على الطلبة لا يسائل حياتهم اليومية وأن هناك نزر قليل من المدرسين من يحاول(خارج إطار ما هو مبرمج) مرافقة الطلبة في التفكير في الحاضر والمستقبل. منذ أن وقع الهجوم على الفلسفة في بداية الثمانينات وتعويضها بالدراسات الإسلامية تكلف أساتذة الفلسفة أنفسهم بإبعاد الشبهات عنها وقرروا أن يجعلوا منها فرصة لدراسة المتون القديمة التي لا تصلح لشيئ إلا لأن تُدَرّس ويُعاد تدريسها للآخرين. العالم ينتقل اليوم إلى الانتقال إلى الثورة الصناعية الجديدة وهذا معناه أن البنى الصناعية والفكرية التي تأسست عليها الرأسمالية العالمية سائرة إلى التفتت وبالضرورة فإن الفكر الحالي حتى وإن كان ما بعد حداثي آخذ في إعادة النظر في منطلقاته لكن التفكير في المغرب لا زال يهتم بالماضي وكيف يمكن الاستفادة منه لحل مشاكل الحاضر. لازال الطلبة والقراء والباحثين يعطون أهمية كبيرة لكتاب مثل العروي والجابري وأمثالهم من المشارقة. وحتى إن هم ااهتموا بالفكر الغربي فالاهتمام ينصب بالأساس على المكرس (يعني المتجاوز) منه. لا زال المغاربة مشدودين إلى الخلف. هناك استثناء مغربي واحد يدخل في إطار الثورة الصناعية الثالثة وهو مركب نور لتوليد الطاقة الشمسية. لكن ومرة أخرى استيراد الأواني دون المعاني لأنه في المقابل حرمت فئات كبيرة من الشباب من عنصر تواصلي مهم هو سكايب وفايبر وواتساب ويبدو أن الحرمان سوف يطال مواقع إلكترونية أساسية للمعرفة وللتواصل مع العالم.