كثر السؤال عن معالم مغرب اسمه مغرب ما بعد كورونا، عن عناوينه العريضة، وعن ملامحه المحيرة، هل ستتحسن ملامحه الديمقراطية والحقوقية لتصير من ثوابت جماله؟ وهل ستكون نهاية الفيروس كسقوط جدار بين مرحلتين؟ هل سينتهي نفق انحسار الحريات أم أنه لا ضوء في نهاية الطريق؟ ولأن الوباء حل بكل ثقل المفاجأة فقد أثقل التفكير في الحاضر بعيون ترقب الآتي ولا تملك ما يطمئن النفوس، وأربك الخوف من القاتل المتجول، الذي قد لا يقف حتى ولو رأى علامة الكمامة على الفم، الكثير من التحليلات، ليست المخبرية فقط بل السياسية كذلك، وغشيت مرحلة كورونا البصر عما سبقها في تحليلات آخرين، كأن الدواء منها كان حين اشتد الداء. لقد أظهرت الجائحة كل الجراح عارية.. أظهرت قطاع صحة سقيم، يختنق وينتظر أجهزة تنفس موعودة حتى نسي الناس الواعد والموعود، وقطاع تعليم أنهكته الإصلاحات وما زادت إلا العطب، وأظهرت أن مغرب كورونا لم يكن تنقصه إلا كمامة لينتهي مشهد تكميم بدأت فصوله سابقا، ونرى الآن ربما عميلة المسح الأخير للساحات ممن كانت تترك لهم إلى زمن قريب ليعبروا فيها عن مواقف كان قادة حكوميون يصرخون بها مقتنعين، أو ربما أوهموا الناس بذلك، وحين عدلوا عنها فجأة أرادوا أن يغيروا نبرة صوت الآخرين المصدومين بشكل أتوماتيكي من الاحتجاج إلى الزغاريد، وإن كانت الزغاريد لدينا ترفع أحيانا حتى في أكثر لحظات الحزن والفقد. لازال مغرب كورونا مصرا على تنميط الطريق نحو الصوت الواحد وتسفيه المختلفين، وما شهده قلب الرباط من منع للصوت الآخر الذي لم يردد كما رئيس الحكومة فيما بعد: إنه "انفتاح"، وفضل أن يستعمل لغته الأصلية حين كان يسميه "تطبيعا"، فكان المشهد سرياليا عنوانه: "إذا تلونا عليك البيان فقل آمين". وفي ضاحية سياسية من هذا المغرب الذي يريد أن يجعله البعض نمطيا بلا اختلاف في الآراء، تأتي أصوات تطالب بطي صفحة الاعتقالات في حق المختلفين، بالإفراج عن شباب حراك الريف، بالكف عن إخراس الصحافيين والمدونين والزج بهم في السجون. القليل منها أصوات أحزاب وجمعيات، والكثير منها "إلكترونات حرة" و أصوات عائلات تعاني انتظار يوم يفرج فيه عن أبنائها، ولا تدري هل سيطول العمر حتى عناقهم أم قد ترحل بغصة قهر بالقلب كما رحلت في الأيام الأخيرة والد محمد الحاكي معتقل الحراك المحكوم عليه بخمسة عشر سنة. و لنا نحن أيضا في هذه الجريدة أصوات خلف السجون، لنا مؤسسها، توفيق بوعشرين، يقضي الزمن السجين من خمسة عشر عاما رغم ما قالته المنظمات الحقوقية المحلية والدولية وفريق العمل التابع للأمم المتحدة المعني بالاعتقال التعسفي في قضيته، ولنا رئيس تحريرها، سليمان الريسوني ، في زنزانة بسجن آخر بنفس المدينة، أمضى حوالي سبعة أشهر رهن الاعتقال الاحتياطي بلا محاكمة، وهل كان سينقص العدالة عدلا إن بوشر معه التحقيق وهو في حالة سراح؟ كتب سليمان عن توفيق وما جف حبره، وهو الآن ضحية مرتين، ضحية ميزان مختل في قضية بدأت بتشهير طافح، و لم تساو بين طرفيها في الانتصاف، وضحية ألا سليمان بيننا. كان عضو لجان كثيرة للدفاع عن الصحافيين، ومنسق "لجنة الحقيقة والعدالة في قضية توفيق بوعشرين"، غابت الحقيقة والعدالة، وغاب سليمان خلف جدران زنزانة. كتب سليمان عن عمر الراضي حين دخل السجن أول مرة بسبب تغريدة، ثم خرج منه ليعود إليه بعد أشهر قليلة. نافح عمر عن ضمان العدالة في قضية سليمان، وقال إن الصحافيين ليسوا فوق القانون لكن لا ينبغي أن يكونوا تحته. التحق الراضي برفيقه بعكاشة، ليغيبا معا في زنزانتين متجاروتين ولا لقاء بين الاثنين يكسر عزلتيهما، كان كلاهما يعد أيام حريته و لا يعد الحرية في كلماته. تختلف الأحاديث في أوساط الصحافيين عن زملائهم المعتقلين كما في أوساط السياسيين وجل المتابعين، لكن المتفق عليه أن معدل الرقابة الذاتية في ازدياد، وحتى هذا الكلام قد تقع عليه الرقابة فلا يقال إلا خلسة، وكلما ازدادت الدعاية، وجدت الصحافة المهنية نفسها كأنها صوت نشاز، ولا تؤدي وظيفة يراد للإعلام أن يصطف بكل ألوانه في غناء سرديتها الواحدة، بل و أحيانا ممارسة التضليل، والتضليل هذا داء نشأ مع نشأة الإعلام ، و"ظل حركة دائمة تتطور أساليبها بحسب تقنيات الاتصال المتوفرة، وهو على علاقة وثيقة بانتهاك أخلاقيات العمل الصحفي التي تندرج ضمن ما يسمى عملية "اغتصاب للوعي" أو "التأثير بالاغتصاب" " كما يفسره منجي مبروكي، كاتب وأستاذ بالمعهد العالي لتكنولوجيا الاتصال والمعلومات بجامعة قرطاج، الذي قال إن " حالة التخويف والترهيب الناتجة عن عملية صناعة الأخبار الكاذبة تدفع باتجاه محاصرة الرأي العام بخطاب وسرديات تسعى للنيل من المنافس، عبر صناعة الأخبار الكاذبة التي ترمي إلى تشويه لدى الرأي العام "، يفي سياق حديثه عن التجربة التونسية في مقال حول الانتقال الديمقراطي والانتقال الإعلامي منشور بكتاب جماعي حول: "الإعلام والانتقال الديمقراطي بالعالم العربي"، يقف فيه على أسلوب التضليل وكيف يتضخم حتى يصير باثا للكراهية . وفي سياقنا المغربي، حيث هناك رغبة في تكريس سيادة الخطاب الرسمي على كل الخطابات، وهي ليست رغبة فقط، بل إرادة تتقوى بالقوة وتتجسد على الأرض، يؤدي ذلك إلى جزر في مساحات حرية التعبير، فيحل موسم الصمت والخوف، و يبتعد الناس، خاصة الذين لهم صلة بالإعلام، من تلقاء أنفسهم، عن الأمور التي قد تثير المشاكل. يفهمون الإشارات من بعيد، ويتبعون خيط الإشارة، وخيط لإشارة هذا تتلقفه دوائر كثيرة من صناع الرأي العام، وهو أمر يرصده الصحافيون أكثر من غيرهم، فهذه المهنة تعلم جس نبض الحرية في الكلام، خلف سماعة الهاتف أو بين الحروف المفرومة أو في اللقاءات التي تقول بالوشوشة بما لا يقال جهارا، و لو أن هناك عناوين صامتة تسعف الكاتب والقارئ أن يسمع قوة الكلام الصامت، لكانت أبلغ كلام. في واقعة نشر المحامي محمد زيان عاريا، حدثت نقلة أخرى جعلت الحديث مرة أخرى يتمحور حول الخوف من كشف حميميات الناس. وفي حديث مع سياسيين كما مثقفين، سمعت مرارا بعد هذه الواقعة أن لا أحد يريد الخوض في قول قد يجعل صاحبه عاريا أمام الملأ، أما آخرون ممن قرأوا أن الكلام انتهى في عهد كورونا، فالصمت بالنسبة إليهم هو نهاية عهد الكلام ومنجاة بالنفس من مناشير بلا دم، لكنها للقتل الرمزي، وقد تقتل فعلا، وفضلوا خيار ستر "المؤخرات" على خيار الكشف بالكلام، حتى "لا نصرح بما يكشف مؤخراتنا".. كلام تكرر على لسان من فهموا الرسالة أو أولوها وفق المزاج السياسي والحقوقي المساعد على هذا التأويل، وصاروا يعدون حروف الجمر في الكلام . منذ أن دخل عمر الراضي السجن ووالده يكتب له رسائل يومية ينشرها على الجدار الأزرق. ليس مهما أن نتفق أو نختلف حول المضمون، لكن عاطفة الأب المكلوم على ابنه جعلتنا نقرأ رسائل أخرى لا يوصلها أي ساعي بريد، ومن أقسى الرسائل أن يضع أسفل ما يكتب صورة ملصق به عدد من المعتقلين الصحافيين، ويضع خانة فارغة بعلامة استفهام عمن سيملأ الخانة من الصحافيين. الكل ينتظر المرشح لسجن جديد أو سياط "فرجة" تغتصب الأخلاق والقانون. وقد "صرنا فرجة ". جملة قالها دريد لحام في مسرحيته الشهيرة "كأسك يا وطن" وهو يجيب عن أسئلة ثقيلة أيقظه بها والده "الشهيد" من سكرته ليؤنبه على حاضره وضميره السكران، و هي الأسئلة التي نطرحها كل يوم: "ما أخبار الحرية"؟ طمأنه ساخرا أن الحال جيد والسجون عادت للمجرمين فقط، وتحولت المعتقلات لمتاحف ومدارس ومستشفيات، و"ما أخبار العدالة"؟ كان الجواب: "العدالة حدث ولا حرج، يأتي الأجانب من آخر العالم ليتفرجوا عندنا على العدالة و النظام ".. قبل أن يصرخ بالحقيقة الساخرة: " الله وكيلك يا أبي صرنا فرجة " ..إنهم ينشرون الناس بمناشير تقتل بلا دم، ولا عقاب لجريمة "الفرجة"..