في يوم من الأيام أتوا بعدد من الشاحنات وأعادونا إلى 9 يونيو.جاء رفاقي وسلموا علي بحرارة لأنهم اعتقدوا أن المرتزقة أخذوني والآخرين لإعدامنا. أخبرتهم أننا كنا في مكان لا نعرف اسمه.التحق بنا جلادون كانوا في أماكن أخرى وهم على سبيل المثال لا الحصر: العبدي الأعور والمهيدي و لامين ومحمد يسلم الملقب ب»بوخنيشيش« والمارتيو وبرنوخ وبلبل وعبد الله الطير والشيباني وشخص آخر كنا نطلق عليه لقبا مغربيا وقحا (...).كنت مع الهيبي وهو سجين مغربي من أكادير فإذا بي أرى ورقة مرمية على الأرض، التفتت يمنة ويسرة فلم أر حارسا فالتقطت الورقة التي كانت بمثابة تقرير لسيدي أحمد بطل حول برنامج التعذيب اليومي للمعتقلين، وحسب ما قرأنا في الوثيقة فإن العمل (الشغلة) يجب أن تبدأ على الساعة الخامسة صباحا حتى الواحدة والنصف زوالا ومن الثانية والنصف إلى الثامنة والنصف مساء حيث يتم عد السجناء لتبدأ الشغلة الإضافية حتى الواحدة والنصف صباحا من اليوم الموالي.قرأنا الورقة ومزقناها ثم دفناها. كانت حياتنا موزعة بين "الشغلة الحارة" والجوع والعطش والمرض.عشرة أشخاص يقتسمون خبزة يأبى الكلب أكلها وعدسا تكاد تحسبه عجيبا ومقرونة رديئة بمذاق مقيت. ولمواجهة الوضع البئيس ذاك كان علينا فعل شيء ما، ولم يكن أمأمنا غير التخريب والسرقة. كلما رأينا مستودعا غفلت عنه أعين الحراسة إلا وأدخلنا إليه واحدا منا ليأتينا بكل ما يستطيع من أكل.ذات ليلة وقفت بالمركز شاحنة كبيرة جدا محملة بمختلف أنواع الإمدادات فاختاروا عشرة منا لإفراغ حمولة الشاحنة القادمة من إسبانيا.انتشرنا في تلك الشاحنة انتشار الجراد الجائع في حقل أخضر من الأشجار المثمرة، التهمنا كل ما وجدناه في طريقنا واستطاعت سرعة أيدينا النيل منه. جاء الحراس وهم أقرب حاسة شم إلى الكلاب المدربة، وكان على رأسهم المدعو "ماماه" ولما اشتموا فينا رائحة الأكل أخبروا ميليد، وكان ضمن الذين شملهم الشم رحال وابراهيم السلوكي وامبارك و العلمي ادريس ورشيد ومصطفى اجبيلو وعبد الرحمان وعلال وفنان احمد وشهيد. كان البرد قارسا ومع ذلك عرونا تماما إلا من أشباه تبابين رثة وباتت الكرابيخ تتراقص فوق ظهورنا وعلى أضلاعنا حتى الصبح، ومنها مباشرة إلى الأشغال الشاقة. وكان من تداعيات محاولتنا الاقتيات، كباقي الكائنات، أن حددوا عقوبتنا في أربعين يوما وحلقوا رؤوسنا وحواجبنا.وبينما نحن منهمكين في الشغلة الحارة فإذا بمروحيات جزائرية تهبط علينا من السماء تحمل "كبار" زعماء "بيزات" وعلى رأسهم محمد عبد العزيز (الكابران) والسويدي ولد وكاك وابراهيم غالي وولد البوهالي، جاؤوا لمراقبة بئر كان الاستعمار الفرنسي حفره في زمن سابق. وبدل أن يتفقدوا أحوالنا ولو من باب النفاق قال لهم الكابران إياكم أن تترفقوا بهم عذبوهم واضربوهم لأن "المروكي" إن لم تعذبه ذبحك! وعملا بنصائح زعيمهم فقد اشتدوا علينا أكثر فأكثر بعد ذلك اليوم. لكل فعل رد فعل مماثل له، ولذلك قررنا نحن المسجونين أن نستمر في السرقة والتخريب مادمنا ننال العذاب الأليم في كل الأحوال.وبما أنني صاحب الاقتراح فقد تطوعت لأكون أول من يبدأ التجربة لكن سوء حظي قادني بين يدي خنزير يدعى عيسى عندما ضبطني أكل ثمرة، وقد كان جيباي مليئين.ضربني اللعين ضربة قاسية كلما تذكرتها سرى ألمها في جسمي كما لو كانت بنت لحظتها. ضربني على مرأى من الجزائريين الذين استعذبوا المنظر فضحكوا كثيرا.لم يثنني الضرب عن المضي فيما اتفقنا عليه. كنا نشتاق للتدخين. في أحد المخازن عثرت على علبة سجائر فخبأتها تحت صرتي وذهبت بها إلى رفاقي الذين كانوا في وضعية "تاريين" أي "مقطوعين من السجائر" كما يقال بالدارجة المغربية. جاء الدور على زميلي عبيد الله الذي سرق علبة طماطم.واستمرت عمليات السرقة من أجل البقاء، كنا نحارب من أجل الحياة ولم نكن ندري أكنا في تلك الوضعية نصنف ضمن فصيلة البشر أم في خانة الحيوان.لم نكن نتوفر على أدنى شيء يعطينا الانطباع بأننا ننتمي لفصيلة الآدميين. الجلادون كانوا يستهدفون قتل أدنى إحساس بكوننا من ذرية آدم الذي كرمه الله تعالى في البر والبحر.كنا نعود مساء إلى جحورنا لنحصي الغنائم التي غنمناها من مخازن العدو: علبة سجائر، بضع ثمرات، علبة طماطم... وهكذا تصبح لأتفه شيء تحصل عليه قيمة لا تقدر، فما بالك بعلبة سجائر قدمتها لرفاقي مع علبة لعود ثقاب، كان الأمر يشبه المعجزة بأن تأكل شيئا ما وتتحدث مع أصحابك ثم تدخن وتنتشي. في 25 يناير 1979 اجتمع كبار "بيزات" في 9 يونيو فتسربت إلينا أخبار أنهم قرروا القيام بالحملات. وقد تزامن ذلك مع ذكرى 27 فبراير، وهو تاريخ تأسيس جمهورية الوهم. حملونا في شاحنات إلى منطقة يسمونها 12 أكتوبر، أما نحن فكنا نسميها "بوست 5" .جمعوا ما يناهز 250 سجينا ووزعونا إلى جماعات تتنوع اختصاصاتها ما بين الحفر والردم وصناعة الآجر وباقي الأشغال الشاقة الحقيرة.صادف اليوم الأول من الأشغال الشاقة عواصف رملية جعلتنا والغبار شيئا واحدا. كان علينا تنظيف مساحة ما يقارب 12 كيلومترا مربعا من الأحجار والأتربة.في اليوم الثاني أيقظونا على الساعة الرابعة صباحا.كانت وجبة الفطور علبة صغيرة من حليب مجفف خال من البروتينات يستعمل عادة لإرضاع صغار البقر والأغنام.كنا نشرب ذلك الحليب في علب فارغة من القصدير.كان الكثير منا مصابين بالروماتيزم أو مصابين بأمراض الجهاز البولي، وكانت تلك المواد التي نشربها تثير فينا الأوجاع والرغبة في التبول، ولكن من أين للواحد منا أن يتبول متى يشاء؟ ساقونا لحفر إنجاز الآخر (البريك)، وكان وزن كل آجرة 25 كيلوغراما.رأينا في تلك السنوات من الأشغال الجهنمية وذقنا من العذاب ما لم يذقه فرعون لمن بنى بهم أهراماته، وقد كنا تحت حراسة جيء بها من الدخيلة. أما هدف البناء فكان تشييد منصة الاحتفال بذكرى 27 فبراير، ولهذا الغرض جاء يتفقد الموقع كبراء الجلادين ورجالات دولة السراب رفقة ضباط جزائريين. [email protected]