كما شاهد العالم بأسره سيناريو الأحداث، فقد نجا الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من انقلاب عسكري على حكمه، ونجت معه فلسفة الإسلام السياسي التي تمكن عبرها من إحكام قبضته على مجتمع يسير وفق مبادئ العلمانية، وأشعل غضب المعارضين والمؤيدين وأثار حفيظة قطاعات واسعة في جيش مترقب. ووجد أردوغان نفسه وحيدا في قمة السلطة في البلاد، وبات أقرب حلفائه يقف بعيدا إلى جانب خصومه، في انعكاس لفقدانه الثقة في دائرة الحكم التي ضاقت شيئا فشيئا عليه بصحبة مساعدين مضموني الولاء. وخلقت سياسة الحكم الممعنة في التسلط انقسامات واسعة شملت كل المؤسسات النافذة، رغم إصرار أردوغان على تعيين خصوم حليفه السابق رجل الدين النافذ فتح الله كولن على رأسها. ولم تثر رغبة أردوغان حفيظة بعض ضباط الجيش وحسب، لكنها دفعت رفيقي دربه الرئيس السابق عبدالله غول ورئيس الوزراء السابق أحمد داود أوغلو إلى الانزواء بعيدا عن الأضواء التي لم يعد أردوغان يسمح لأحد بمشاركته فيها. في هذا السياق، يقول كامل يلماز، الباحث في السياسة التركية في جامعة "كيه أو سي" إن سلوك أردوغان وضع تركيا "على طريق الموت البطيء". وأوشكت البلاد على الانزلاق في مواجهات دموية واسعة النطاق عندما اشتبكت قوات موالية لأردوغان مع قوات الانقلاب ليل الجمعة في اقتتال قصير أسفر عن مقتل أكثر من 290 شخصا. لكن علاقة أردوغان الجديدة مع القادة الكبار في الجيش، التي تنامت مع بدء حملة عسكرية واسعة النطاق ضد حزب العمال الكردستاني جنوبي البلاد العام الماضي، أحبطت محاولة الاستيلاء على السلطة من قبل ضباط ساخطين على هيمنة الإسلاميين على غالبية المؤسسات. وتقول غونول تول، مديرة برنامج تركيا في معهد الشرق الأوسط بواشنطن، "منذ أن أصبح نيسديت أوزيل، أحد الرجال المخلصين لأردوغان، رئيسا لهيئة الأركان، شهدت العلاقات بين أردوغان والقوات المسلحة التركية بعض التحسّن، على الأٌقل على مستوى القادة العسكريين الكبار". وأضافت "لكن ذوبان الجليد الحقيقي بين الطرفين حدث عندما بدأ أنصار فتح الله كولن في القضاء بفتح تحقيقات في قضايا فساد طالت عائلة أردوغان ودائرته القريبة منه. ففي تلك اللحظة، رأى أردوغان الجيش كحليف محتمل في ما سيصبح حربا شاملة على أنصار كولن". وشارك رئيس الأركان الحالي خلوص أكار في حفل زفاف ابنة أردوغان كشاهد على العقد في انعكاس لتوطد العلاقة بين الجانبين. وجاء رد أردوغان بمثابة "انقلاب على الانقلاب"، إذ أوقفت السلطات التركية المئات من الجنرالات والقضاة والمدعين واتهمتهم بدعم محاولة الانقلاب في مختلف أنحاء تركيا. وصرح وزير العدل بكير بوزداغ بأن "عملية التنظيف مستمرة" بشأن حملة التوقيفات الجارية، مضيفا "هناك حوالي 6 آلاف موقوف". وسرعان مع أثارت الإجراءات التركية الواسعة قلق قوى دولية اختارت تأييد الرئيس التركي في مواجهة الانقلابيين، الذين يقول أردوغان إنهم ينتمون إلى حركة "خدمة" بزعامة كولن. وقال وزير الخارجية الفرنسي جان مارك إيرولت "كان من الواجب إدانة الانقلاب في تركيا، فهذا أقل شيء، لكن نريد أن تعمل دولة القانون بصورة تامة في تركيا، فهذا ليس شيكا على بياض لأردوغان". وتقول تقارير إن رئيس أركان القوة الجوية السابق أكين أوزتوك، والعقيد محرم كوس، زوج ابنة أوزتوك، الذي يعمل في وحدات الطائرات المروحية يدينان بالولاء لكولن. واعتقل الجنرال آدم حدوتي قائد الجيش الثاني، والجنرال أردال أوزتورك قائد الجيش الثالث، وأفني أنغون قائد حامية مدينة ملاطية شرقي الأناضول. كما طالبت نيابة أنقرة وضع الكولونيل علي يازجي، مساعد أردوغان منذ أغسطس 2015، في الحبس على ذمة التحقيق. بيد أن محللين عسكريين يرون أن الاعتقالات الواسعة التي تطال ضباطا كبارا في الجيش ستكون سببا في تراجع الروح المعنوية بين الضباط والجنود فضلا عن هبوط الاستعداد القتالي إلى مستويات خطيرة. كما سيؤدي توقيف قادة وحدات قتالية وضباط في مراكز القيادة وإدارة اللوجيستيات العسكرية إلى اختلال النظام وتعطل حركة التدريب الروتينية وشيوع حالة عدم الثقة بين وحدات الجيش. وبات استعداد الجيش آخر ما يشغل أردوغان، الذي يسعى جاهدا إلى إظهار معارضة غالبية الأتراك للانقلاب في صورة دعم مطلق لحكمه. والأحد دعا أردوغان أنصاره إلى مواصلة البقاء في الأماكن العامة والشوارع خلال الأيام القادمة، في خطاب حماسي على هامش جنازات عدد من القتلى. وعلى وقع هتاف الحشود المطالبة بإعدام منفذي الانقلاب، أمام مسجد الفاتح في إسطنبول، قال مسؤول كبير في حزب العدالة والتنمية الحاكم إنه من غير المستبعد أن يعيد البرلمان "إقرار عقوبة الإعدام كي نتخلص من المتآمرين".