-1- ترتبط عجلة التنمية والتقدم الإنساني / الحضاري بقيم الاعتراف وبثقافة الاعتراف، ذلك لأن وعي الذات يرتكز في كل زمان ومكان على أرضية "هذه القيمة / الثقافة". فماذا يعني الاعتراف في مشهدنا الثقافي...؟ إن قراءة استعجالية لسياستنا الثقافية، تجعلنا ندرك بسهولة ويسر، أن هذه السياسة، مازالت بعيدة عن ثقافة الاعتراف، وعن قيم هذه الثقافة، إذ ما زلنا نواجه إشكالية مستفحلة وأزمات مستمرة في عدم الاعتراف، وهي إشكالية بكل تأكيد ليست جديدة، فهي تعود إلى جذور تاريخية كرستها عوامل التخلف المختلفة، من تدني الوعي إلى تدني المعرفة، ومن تدني برامج التربية والتعليم، إلى تدني رؤيتنا الحضارية والثقافية، وهو ما انعكس سلبا على سياستنا الثقافية في الزمن المغربي الراهن، التي تعمل بدون حياء على تغيب فئة لتقدس أخرى، تعطي لهذا بسخاء لتمنع عن ذاك الوجود والذات . إن الآخر في سياستنا الثقافية الراهنة، ولربما في كل السياسات الثقافية الماضية، هو كل من لا ينتمي إلى حزب الوزير، كل من يعارض سياسة الحكومة، كل من له خطاب مغاير لخطابها، وهو ما يعني عدم الاعتراف بوجوده وكينونته الإنسانية / عدم الاعتراف بحقوقه الإبداعية، الثقافية، بصرف النظر عن قبول هذا الإبداع / الثقافة أو الاقتناع بأفكاره وقناعاته العميقة. لهذا كان وما يزال مفهوم الآخر في هذه السياسة / السياسات، يسمح لأهلها باستخدام كل وسائل القسر والقهر لإبعاد هذا الآخر، أو لتغيير قناعاته كشرط لقبوله والتعامل معه، كما تريد هذه السياسة أو تلك. -2- لماذا تعتني السياسة الثقافية بهذا الفنان / هذا المفكر / هذا المثقف، وتهمل وتهمش وتصادر الآخرين ؟. إن السياسة الثقافية التي لا تعمل بقيم "الاعتراف" والتي لا قدرة لها على إدراك قيم الآخر بشجاعة وعقل متفتح وراق، تضع كل المعارضين من المثقفين والفنانين والمفكرين والمبدعين، خارج الإطار، باعتبارهم يفكرون وينتجون ويتصرفون خارج إطارها، وهو ما يعني في نظرها، لا حق لهم لا في التعبير ولا في الإنتاج، ولربما وضعتهم هذه السياسة في سرها خونة وعملاء ومتآمرون ومتضامنين مع الشيطان. نتيجة لذلك، ها نحن نجد أمامنا العشرات من الكتاب والموسيقيين والمسرحيين والرسامين والمفكرين، مجرد أدوات، يفتقرون لذاتهم الإبداعية الشاملة، أي حرية التفكير والتعبير والعمل في مجتمعنا الثقافي، أفراد وجماعات أنهم غير مرئيين وغير مدركين ومسكوت عن مطالبهم وعن أشكال وجودهم، بل ويعانون من القيود ومن القهر والتهميش جراء عدم اعتراف السياسة الثقافية بقدراتهم والاستهانة بحرياتهم وحقوقهم. من هنا لا تستقيم العلاقة الجدلية المفترضة بين المعرفة / الثقافة / الفنون والسلطة. يعني ذلك بوضوح، أن هناك سياسة إنكار لحقوق الضعفاء / الفقراء / المظلومين، تتطلب اعترافا من وجهة نظر السلطة أو من وجهة نظر الأقوياء والأغنياء...إنها سياسة تؤدي في نهاية المطاف إلى إذلال فئة من الفنانين والمثقفين وإلى هدر إنسانيتهم واللامبالاة بحقوقهم وبحياتهم أيضا... السياسة هنا، تتحول إلى سياسة إرغام وقهر وإكراه. -3- إن ثقافة الاعتراف بالآخر، هي جزء من الأدوات والآليات المطلوبة لكل سياسة ثقافية، ذلك لان التطور والنمو والتقدم في الإنجاز الإنساني، لا يمكن امتلاكه إلا إذا حضينا باعتراف المثقفين والفنانين والباحثين والعلماء، الذين يشكلون قوة ناعمة لا يمكن الاستغناء عنها. في مرآة الآخر، يمكن أن نطور وعينا ونحقق هويتنا، فالتقدم الإنساني أصبح مرتبطا اشد الارتباط بأشكال الاعتراف المتبادل، فبدون قيم الاعتراف / ثقافة الاعتراف، لن يتمكن أحد في المشهد الثقافي من الإسهام بطريقة حرة وفعالة في التكوين السياسي للمجتمع، ولا في بناء الذات الاجتماعية، ولا في تطوير وعي هذه الذات، بدون إكراه وبدون خوف. إن الكثير من المفكرين في عالم اليوم، يؤكدون بصوت مرتفع، أنه لا يمكن أن نطور وعينا الثقافي / الحضاري، بدون أن نعترف بالآخر، الآخر الذي لا يتفق معنا سياسيا أو ايدولوجيا، أو فكريا، أو مذهبيا، ذلك لأن الاعتراف وحده سيساعدنا على تأسيس وعي جديد في مستوى هذا العصر وشروطه وتطلعاته التي تفرض تمكين الجميع من المساهمة الفعلية والمشاركة الفعلية في بناء الذات الثقافية / الوطنية. -4- في المجال الثقافي العام، تفرض علينا قيم الاعتراف، الاعتراف بالتعدد والتنوع في الفضاء الثقافي، تفرض علينا توفير كل المقتضيات والمتطلبات لحمايتها / تفرض علينا احترام مفهوم المواطنة بعيدا عن النزاعات الضيقة، لا فرق بين هذا الذي ينتمي إلى حزب الوزير، والذي يناصر مذهبية الحكومة وذلك الذي يعارضها. السؤال الذي يطرح نفسه اليوم علينا وبإلحاح: ماذا فعلت السياسة الثقافية في المغرب الراهن،للأدباء / شعراء وروائيين وقصاصين، ماذا فعلت للكتاب والمسرحيين والموسيقيين والتشكيليين الذين ما زالوا على قيد الحياة، ينتظرون الاعتراف بهم، وبما يفعلون ؟. ماذا فعلت هذه السياسة للذين رحلوا عنا وتركوا لنا آثارهم الإبداعية والعلمية، تتلاشى وتتناسى دون اهتمام / بل ودون اعتراف...؟. إن النظر العميق إلى هذا السؤال، يعني بوضوح وشفافية، إن ثقافة الاعتراف / ثقافة التسامح / ثقافة المصالحة، ما زالت بعيدة عنا وعن قناعة سياستنا الثقافية. لذلك نقول للذين خططوا لهذه الثقافة، أن التاريخ يعلمنا أن عدم الاعتراف بالفنانين والمبدعين والباحثين وأصحاب الرأي، هو تأجيل فقط. ذلك لأن المعرفة لا يمكن قتلها ولا طمسها ، لأنها – كما قال الشاعر بوسريف- شجرة كلما قطعت أعضاءها تزدهر من جديد، وبتفرعات أكثر وأكبر. أفلا تنظرون...؟