في إطار الجهد المبذول لتعزيز آليات الدراسة وتحليل الخطاب، ومسايرة اللغة العربية لأدوات التحليل العلمي، صدر أخيرا كتاب جديد بعنوان "التداولية أصولها واتجاهاتها" لمؤلف الباحث الشاب، جواد ختام، يقع في مائتي صفحة هي خلاصة اطلاعه على آلاف الصفحات. ويثير الكتاب مواضيع ذات صلة بأنساق واستعمالات اللغة، والقضايا المترتبة عن ذلك الاستعمال، والعلاقة المقصدية بين المتكلم والآخر (المخاطب)، وجميعها تشكل محورا لعلم التداولية. في هذا السياق، استضاف د. خالد اليعبودي أستاذ المادة، بكلية الآداب محمد الخامس بالرباط، مؤلف الكتاب، في لقاء مباشر مع طلبة الدراسات العربية بالفصل الرابع بالكلية، الذين تفاعلوا مع التقديم وطرحوا أسئلة عدة تصب في صميم هذا العلم والخدمة التي يقدمها للغة العربية وأهلها والمشتغلين بها. حيث اعتبر ختام، أن هدف التداولية هو المساعدة على التواصل في وضعيات مختلفة، مبينا أن هناك مصطلحات تطرح فارقا جوهريا بين التداولية وغيرها من العلوم المجاورة، مثل الحجاج الذي كان يرتبط بالبلاغة الانفعالية، أما في التداولية فهو في صميم اللغة، من خلال الاعتماد على مؤشرات شتى لإدراك المحتوى. وتطرق الأستاذ المحاضر، إلى نوعين من التداولية، هما التداولية الإشارية (Pragmatique des deixis) لدى العالم بنغنيست، والتي تعتمد على الإشاريات الزمكانية والضمائر، وتداولية أفعال الكلام (Pragmatique des actes de langue) ، لدى العالم أوستين غرايس، والمعتمدة على الاستلزام الحواري. مشيراً لتعدد مشارب التداولية والقضايا التي تثيرها ما يجعلها "تداوليات بصيغة الجمع لا المفرد"، وأن الفرق بين الدلالة والتداولية هو الفرق بين المكتوب والمنطوق. وأشار نفس المحدث، إلى أن العلوم التي تعتمد التوليدية والتوزيعية وكل القضايا التركيبية التي تعجز اللسانيات عن حلها تُلقى إلى التداولية. معتبرا أن هذا العلم الذي ظهر منذ خمسينيات القرن المنصرم، أصبح يفرض نفسه إلا أنه يواجه مشكل الاطلاع على مصادره ونظرياته الأساس. وهنا يعمل المؤلَّف كمدخل نظر لرفع اللبس عن مجموعة من المغالطات، كالتداولية في علاقتها بالوظيفية، حيث إن مباحثهما مختلفة ومرد ذلك للخلفيات والروافد المعرفية. ووضّح في الباحث هذا الإطار، أن التداولية لا تتطرق لجانب التواصل فقط بل تتعداه إلى الإشارة إلى مباحث أخرى كالحجج والأفعال الكلامية وغيرها. مشددا على أن وجود حاجة ماسة في إطار تحليل النص الأدبي إلى بلورة التداولية كمبحث من مباحث ليس فقط الدراسات الأكاديمية، وإنما الدراسات في سائر المباحث الحديثة لما لها من دور في المساعدة على إدراك المقاصد والمؤشرات الزمانية والمكانية، وإدراك المعنى، وخروج الخبر عن مقتضى الظاهر في علاقة بالبلاغة قديماً. وأعرب المؤلف عن سعيه لتجسير العلاقة بين اللسانيات والآداب، لسبب بسيط هو اشتراط كل خطاب لحضور مجموعة من المتكلمين ومخاطبين، ثم حضور مقصدية واستراتيجيات بين لسانية، ولبلوغ المقصدية أي نص لابد من استراتيجيات خطابية، وهنا تتبدى أهمية الدلالة في قراءة النصوص الأدبية. وحول علاقة التداولية بتراثنا العربي، أشار الباحث إلى وجود دراسة للباحث الجزائري، مسعود الصحراوي يقارب فيها الخبر والإنشاء في اللغة العربية، فحينما نمعن النظر نتبيّن أن هناك خطابا مصرحا به هو في أنواع الخبر قد يخرج عن مقتضى، يجعلنا ننتقل من محتوى قضوي إلى آخر مثال ذلك قول الحطيئة "دع المكارم ولا ترحل لبغيتها**واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي"، وبسبب هذا البيت سجن الحطيئة، فظاهر الكلام المصرح به مدح، بيد أن سياق الكلام يبين تضمنه هجاء مبطنا للمخاطب. ومن هنا تظهر أهمية علم التداولية في اللغة العربية، والحاجة إليها سواء في قراءة النصوص الدينية، أو الشعرية، أو الروائية والمقالات، لافتراض بسيط هو أن كل خطاب يقتضي متكلما ومخاطبا ومقاصد واستراتيجيات ضمن سياق كلامي معين. وحتى في فهم علم أسباب النزول والناسخ والمنسوخ وغيرها من علوم الشريعة والفقه والحديث، فإن التداولية تتيح هذه الإمكانيات بمصطلحات جديدة تعيننا على فهم المقاصد سواء الصريحة أو المضمرة.