ولد مهرجان تطوان الدولي لسينما بلدان البحر الأبيض المتوسط في سنة 1985 بمبادرة من أعضاء جمعية أصدقاء السينما المنبثقة عن النادي السينمائي "نادي الشاشة" ، و كان خلال دوراته الأولى و إلى حدود الدورة العاشرة عبارة عن ملتقى سينمائي ثقافي بدون مسابقات أو جوائز، و تحول انطلاقا من الدورة الحادية عشرة في سنة 2003 إلى مهرجان بمسابقتين إحداهما خاصة بالأفلام الطويلة و الأخرى خاصة بالأفلام القصيرة، و أصبح حاليا يتضمن مسابقة أخرى خاصة بالأفلام الوثائقية. صادف هذا المهرجان الملتزم و الصامد بعض المشاكل المادية القاهرة الناتجة عن قلة الموارد المالية التي تم خلال عدة دورات تجاوزها بالصمود و التحدي، ولكنها ازدادت حدة و تفاقما جعلته يختفي اضطراريا و مؤقتا خلال سنتي 2003 و2004 بعدما التزمت بعض المؤسسات بدعمه ماديا قبل أن تتراجع عن التزامها في آخر لحظة، و لكن الرغبة الملحة و العزيمة القوية في الحفاظ لمدينة تطوان على مهرجانها السينمائي دفعت بمنظميه إلى التفكير في وسيلة تضمن له الموارد المالية القارة و الكافية و تضمن له الاستمرارية، و جاء الحل في سنة 2006 عن طريق خلق مؤسسة خاصة بهذا المهرجان برئاسة السيد نبيل بنعبد الله الذي كان آنذاك يشغل منصب وزير الاتصال ،و قد أعرب عدة مرات عن رغبته في الانسحاب من هذه المؤسسة بعدما أصبح المهرجان قادرا على مواصلة الطريق ،و انسحب فعلا منها انطلاقا من الدورة السابقة. مكنت هذه المؤسسة خلال الدورات الماضية من توفير الإمكانيات المادية الضرورية لضمان استمرارية هذا المهرجان الذي أصبح ينظم سنويا بعدما كان ينظم كل سنتين، و الذي وصل هذه السنة دورته الثانية و العشرين بعد أكثر من ربع قرن من الحضور و الصمود، كما مكنته من تطوير غلافه المادي الذي لم يكن يتجاوز 50 مليون سنتيم في الدورات الأولى. و يبقى هذا المهرجان إلى جانب المهرجان الوطني للفيلم و مهرجان السينما الإفريقية بخريبكة من أقدم المهرجانات السينمائية المغربية، و من بين أهم المهرجانات ببلادنا حاليا ، بل أصبح من المواعيد المنتظرة و البارزة المتميزة بالحميمية و بنكهة خاصة تتجلى في نوعية تخصصه في السينما المتوسطية بأفلامها الطويلة و القصيرة و الوثائقية، وفي تواجده بمدينة تطوان العريقة (الحمامة البيضاء و بنت قرطبة) و ضواحيها الجميلة، و تتجلى أيضا في برنامجه و أنشطته المتنوعة و ضيوفه البارزين من مختلف المهن السينمائية و البلدان المتوسطية. انطلقت الدورة الثانية و العشرين مساء يوم السبت الماضي و تضمن برنامجها ثلاث مسابقات إحداهن خاصة بالأفلام الروائية الطويلة بمشاركة 12 فيلم من بينها الفيلم المغربي "إحباط" لمحمد إسماعيل ، و الفيلم المغربي البلجيكي "رجال من طين" لمراد بوسيف، و أسندت رئاسة لجنة التحكيم في هذه المسابقة للمنتج و المخرج الإسباني المقتدر لويس مينيارو ، و ضمت في عضويتها الممثلة المغربية سناء العلوي ، و قد تميزت هذه الدورة عن سابقاتها بإحداث لجنة رابعة للتحكيم هي لجنة النقد التي كلفت باختيار الفيلم الروائي الطويل الذي يستحق جائزة أطلق عليها إسم الناقد السينمائي الراحل مصطفى المسناوي رحمه الله ، و اختير الباحث و الكاتب و الناقد نور الدين أفاية لرئاسة هذه اللجنة التي تكونت من الصحافي و الناقد العراقي قيس قاسم و الصحافي و الناقد المصري أحمد فايق و الناقد السينمائي اللبناني نديم جورجو. المسابقة الثانية خاصة بالأفلام القصيرة بمشاركة 16 فيلم من بينها الفيلمين المغربيين "آية و البحر" لمريم التوزاني، "أمل" لعايدة سينة ، و الفيلم المغربي الفرنسي "بكارة" لفيولين بيلي ، و ترأس لجنة التحكيم الخاصة بهذه المسابقة الناقد و الصحفي المصري المشهور أمير العمري ، و ضمت في عضويتها الكاتب و الباحث المغربي في علم الاجتماع عدنان الجزولي. المسابقة الثالثة خاصة بالأفلام الوثائقية التي شارك فيه 14 فيلم من بينها الفيلم المغربي "ثقل الظل" لحكيم بلعباس و قد ترأست السينمائية البلجيكية كارين دو فيليي لجنة التحكيم فيها ، و ضمت في عضويتها الممثل المغربي مالك أخميس. محطات أخرى مهمة شملتها هذه الدورة من بينها اللقاء الذي دار حول الأعمال السينمائية و التلفزيونية للمخرج المغربي داوود أولاد السيد الذي تم تكريمه في حفل الافتتاح ، و لقاء حول السينما المغربية و قضايا اللغة، و ندوة حول موضوع "حينما تحكي السينما مآسي المتوسط" ، و مائدة مستديرة حول المخرج الفرنسي " أندريه تيشيني " السينمائي المتعدد الأوجه، الذي لم يتمكن من الحضور و سيتم تكريمه في حفل الاختتام مساء يومه السبت إلى جانب الممثلة المغربية أمال عيوش. برمجت خارج إطار المسابقات الثلاث عدة عروض سينمائية لأفلام أخرى مغربية و أجنبية ، و عدة أنشطة بيداغوجية من بينها ورشة لصنع فيلم التحريك من طرف مجموعة من التلاميذ بتأطير من النشط البلجيكي دونيس كلين، كما برمج لفائدة الطلبة ورشات ودرس في السينما يهدف البعض منها إلى تمكينهم من قراءة الصورة و تحليلها ، و قد تم إنجاز هذه الأنشطة بمشاركة مهنيين و سينمائيين و بتعاون مع الأكاديمية الجهوية للتربية و التكوين و نيابة التعليم و عمداء و مديري المدارس بتطوان. شاهدت إلى حدود كتابة هذه السطور أفلاما متوسطية طويلة عرضت في إطار المسابقة الرسمية و هي أفلام تستحق فعلا المشاركة فيها بجودتها على عدة مستويات كالكتابة و المعالجة و الإخراج و التشخيص و التصوير و التوضيب ، هي أفلام السينيفيليا الموجهة لعشاق السينما ، هي من نوع أفلام المؤلف غير التجارية ، و أخص بالذكر ثلاثة أفلام مأساوية عميقة و عنيفة نفسيا ، أولها فيلم "ثلاث نوافذ " و " عملية شنق" للمخرج عيسى كوسجا من الكوسوفو ، الذي يتناول بعد انتهاء الحرب موضوع احتقار و إهانة و تدنيس أربع نساء تعرضن من طرف أزواجهن و كل رجال القرية بسبب تعرضهن للاغتصاب أثناء الحرب، و هي معاناة و مضايقات ستجعلهن يعشن الجحيم مما سيدفع بإحداهن إلى الانتحار. الفيلم الثاني يحمل عنوان "الورطة" للمخرج تونش دافوت من تركيا ، و يحكي أطوار علاقة متوترة و متقلبة بين شقيقين حطابين بعد وفاة أمهمها. ، و هي علاقة ستزداد إثارة بعدما التحقت رفيقة الأخ الأصغر للعيش معهما في نفس المنزل الذي ورثاه عن أبيهما و الذي يوجد وسط غابة وحشية جميلة. الفيلم الجميل الثالث فرنسي إيطالي يحمل عنوان "الانتظار" من إخراج بييرو ميسينا و بطولة الممثلة الفرنسية جولييت بينوش تشخص فيه دور ام فقدت ابنها الشاب الذي تربطه علاقة غرامية بشابة قدمت لمنزله للاتقاء به لأنها تحبه كثيرا و لم تعد قادرة على فراقه، و لكن أمه لن تخبرها بوفاته المفاجئة إلا في نهاية الفيلم ، و ظلت طيلة مدة الفيلم توهمها بأنه مازال حيا و بأنه سيعود للمنزل في اليوم الموالي. هي إذن بعض النماذج من المواضيع التي مازالت السينما المتوسطية تتناولها بكيفية سينمائية جيدة و متقنة ، و هي أفلام مأساوية و لكنها لا تخلو من طرافة خفيفة أحيانا على مستوى الحوارات و المواقف. المهرجان متميز ومتفرد بنوعية الأفلام الجديدة التي تعرض فيه و بأنشطته المواكبة بمضمونها لأهم التطورات و القضايا الراهنة و هو بذلك مهرجان ينصت لنبض زمانه كما يشير إلى ذلك عنوان الكلمة التقديمية الواردة في دليل المهرجان و التي قام بترجمتها إلى العربية عضو لجنة التنظيم الناقد و الأستاذ عبد اللطيف البازي.