يوم السبت الثاني من يناير 2016 أعلن الرئيس التركي رجب طيب اردوغان ان تركيا "بحاجة لإسرائيل" على غرار إسرائيل التي تحتاج أيضا إلى تركيا في منطقة الشرق الأوسط، داعيا إلى المضي في تطبيع العلاقات بين الطرفين التي توترت منذ العام 2010. اعتبرت تركيا على الدوام الحليف الأساسي لإسرائيل في الشرق الأوسط قبل أن تتدهور العلاقة بين البلدين بسبب هجوم قوات خاصة إسرائيلية على مجموعة سفن تركية كانت تنقل مساعدات إلى غزة عام 2010. وقال الرئيس التركي في تصريح نقلت ابرز الصحف التركية ما ورد فيه "ان إسرائيل بحاجة إلى بلد مثل تركيا في المنطقة. وعلينا أيضا القبول بحقيقة إننا نحن أيضا بحاجة لإسرائيل. إنها حقيقة واقعة في المنطقة". وأضاف اردوغان "في حال تم تطبيق إجراءات متبادلة بشكل صادق سنصل إلى تطبيع العلاقات لاحقا". وكالة فرانس برس التي كانت من ضمن الوكالات التي نشرت هذه التصريحات ذكرت أن تركيا تسعى إلى تحسين علاقاتها مع اسرائيل خصوصا بعد ان توترت علاقاتها مع العديد من دول الجوار. وكان مسؤولون إسرائيليون قد أعلنوا في منتصف ديسمبر 2015 أن إسرائيل وتركيا توصلتا إلى سلسلة من "التفاهمات" لتطبيع علني لعلاقاتهما بعد مفاوضات سرية جرت في سويسرا، وذلك بعد لقاء سري جمع رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي ورئيس جهاز "الموساد" الإسرائيلي الذي عين في منصبه الأخير قبل عدة أيام، يوسي كوهين، ومساعد وزير الخارجية التركي، فريدون سينيرلي أوغلو. وأفاد مسؤولون إسرائيليون أن تركيا وإسرائيل توافقتا على تعويض لضحايا الهجوم الإسرائيلي عام 2010 على قافلة السفن التركية، وعودة سفيري البلدين إلى العاصمتين، وتخلي تركيا عن ملاحقات قضائية بحق إسرائيل، وتعهد تركيا بمنع دخول القيادي في حماس صلاح العروري إلى أراضيها ووقف أو الحد من نشاط حركة حماس في تركيا. وعن قطاع غزة اقترحت إسرائيل السماح لتركيا بإرسال معدات بناء وإنشاء لجنة مشتركة على سبيل المثال لبحث كيفية تخفيف الحصار عن غزة والسماح لشركات و مؤسسات تركية بالعمل في غزة على نطاق أوسع مما هو موجود الآن. تصريحات الرئيس التركي وتودده العلني للكيان الصهيوني شكل صدمة لبعض هؤلاء الذين كانوا يقدمون حكومة أنقرة بقيادة حزب العدالة والتنمية كنموذج مثالي للمواقف الأجنبية المؤيدة للقضايا العادلة للأمة العربية، ولكنها بالنسبة لآخرين لم تكن سوى كشف علني للتوازن المصلحي وللعلاقات الإستراتيجية القائمة بين أنقرة وتل أبيب. فرغم الضجة المثارة حول الخلاف بين أنقرة وإسرائيل منذ حادث السفينة مرمرة سنة 2010، ظلت علاقات الجانبين مستمرة ومستقرة، فمن الناحية الاقتصادية وفي سنة 2014، بلغ حجم الصادرات التركية إلى إسرائيل ما يزيد عن مليار ونصف المليار دولار إضافة إلى نصف مليون سائح إسرائيلي سنويا إلى المنتجعات التركية، هذا إلى جانب 250 شركة إسرائيلية تعمل في تركيا، في حين وصل عدد الشركات التركية التي تعمل في إسرائيل إلى 580 شركة، وتعدت صادرات إسرائيل إلى أنقرة 3000 مليون دولار. وينتظر أن تظهر إرقام المبادلات لسنة 2015 بعد أستكمال وضعها في الربع الأول من سنة 2016 حجما أكبر للعلاقات الإقتصادية. على الصعيد العسكري كانت هناك العديد من الاتفاقات التي وصلت قيمتها إلى مليارات الدولارات حيث تزود إسرائيل تركيا بطائرات بدون طيار وتعمل على تطوير الدبابات التركية وصيانة الطائرات التركية المقاتلة الأمريكية الصنع وتعمل على تحديثها وتزويدها بالتكنولوجيا التي ترفع من قدراتها القتالية، إضافة إلى تزويد الجيش التركي بالأجهزة الإلكترونية المتطورة من خلال مؤسسات الصناعات العسكرية الإسرائيلية. مصادر رصد ألمانية أفادت كذلك أن أجهزة المخابرات التركية لم تتوقف عن التعاون مع نظيرتها الإسرائيلية، وتركز تبادل المعلومات على الوضع في سوريا وسيناء وليبيا خاصة تحركات القوات المسلحة النظامية في تلك المناطق وعملياتها ضد الجماعات المسلحة، كما زودت إسرائيل تركيا بمعلومات اعتبرت أساسية في أنقرة عن نشاط بعض الجماعات الكردية والتركية المعارضة لحزب العدالة والتنمية. وقد توسع هذا التعاون بشكل أكبر سنة 2015 ليشمل كل منطقة المغرب العربي. يشار إلى أن صحفا تركية وأوروبية كشفت في أوقات متقاربة سنتي 2013 و 2014 عن قيام أجهزة المخابرات التركية بتزويد تنظيم داعش في سوريا بالسلاح والمؤن عبر وسائل النقل العسكري التركية، وقد تعرض الصحفيون الأتراك الذين كشفوا عن هذا الأمر للسجن بتهمة الإضرار بأمن الدولة. صدمة مؤقتة داخل تركيا كانت ردود الفعل متباينة بشأن مواقف أردوغان من الكيان الصهيوني. الكاتب والصحفي التركي إبراهيم تركمان كتب يوم 31 ديسمبر في مجلة "أكسيون" التركية: "هل إسرائيل صديقة لتركيا أم عدو لها؟ إن الرد على هذا السؤال، حتى الأمس، كان بسيطا للغاية بالنسبة لمسئولي الحكومة التركية والأشخاص المقربين منها. غير أن هذا الموضوع في الأسبوع الأخير، تحول إلى سياسة داخلية معقدة ومسألة خارجية إلى حد ما. ويبدو أن التصريحات التي أدلى بها المتحدث الرسمي بإسم حزب العدالة والتنمية الحاكم عمر تشيليك التي قال فيها "دولة إسرائيل وشعبها صديقان لتركيا بلا شك" والتي لا شك في أنه ما كان يمكن له أن يصرح بها بتاتا حتى وقت قريب على سبيل المثال قبل انتخابات الأول من نوفمبر 2015 قد أثارت غضبا كبيرا، بالمعنى التام، بين من يساندون توجهات الإسلام السياسي في البلاد. على سبيل المثال أعرب رئيس هيئة الإغاثة الإنسانية وحقوق الإنسان والحريات، بولنت يلدريم منظم أسطول الحرية "سفينة مرمرة"، عن ردة فعله بشكل واضح قائلا "نحن شخصيا لا نرى من الصواب توقيع أي اتفاقيات مع إسرائيل". ويرى يلديرم أن جعل احتياطي الغاز الطبيعي الموجود في شرق البحر المتوسط موضع اتفاق خطوة دبلوماسية ينبغي لحزب العدالة والتنمية الابتعاد عنها. ذلك أن هذا الموقف قد يضفي صفة الشرعية على اغتصاب حق فلسطين في هذا الاحتياطي. كما قال الأمين العام لنفس الهيئة ياوز ديده إن الموافقة على الشروط المعلن عنها في خبر الاتفاق الذي تم نشره أولا من قبل وكالة رويترز للأنباء ستكون خيانة، بقوله: "في حال حدوث مثل هذا الاتفاق، فأنا لا أظن أن هناك حكومة تستطيع إيضاح ذلك للرأي العام التركي". السياسة الواقعية والضمير ردود الفعل انهالت على خطوة الحكومة لتطبيع العلاقات مع إسرائيل على مواقع التواصل الاجتماعي أيضا. غير أن ردود فعل الجماهير المناصرة لحزب العدالة والتنمية كانت موجهة إلى عمر تشيليك بصفته الشخصية محاولين تبرئة الحكومة من هذه التصريحات. لدرجة أن عدد من يتذكر أن أول إشارة تدعو للتقارب مع إسرائيل جاءت من الرئيس رجب طيب أردوغان كان قليلا جدا. وقال مجلس الشباب الرائد المقرب من حزب العدالة والتنمية في بيان نشره على موقعه الإلكتروني تحت عنوان "إشعار للرأي العام": "نذكر مسئولي الحكومة بضرورة عدم حبسهم ضمير المسلمين في سجن السياسة الواقعية. كما أن التصريح بأن الشعب التركي صديق لدولة إسرائيل وشعب إسرائيل صديقان لتركيا هو افتراء واضح على الشعب التركي المسلم". وقد شعر تشيليك بحاجة إلى تفسير وتوضيح تصريحاته التي أحدثت غضبا لدى الشارع التركي وقال في تصريح له بعد يومين "إن اهتمام حزب العدالة والتنمية الذي يبديه في القضية الفلسطينية يحظى بعمق تاريخي ومبدأي بحيث لا يتأثر من سير العلاقات مع إسرائيل. قد تكون ثمة حالات من الصعود والهبوط في العلاقات الدولية لكن علاقاتنا مع الشعوب تحظى بتحسن ودي دائما. وهذا كل ما في الموضوع...". وبغض النظر عن تصحيح تشيليك إلا أنه كان يبدو وقد ذعر من ردود الفعل الواردة من الفئات المؤيدة للحزب الحاكم لدرجة أن رئيس الوزراء أحمد داود أوغلو شعر هو الآخر بحاجة إلى الإدلاء بتصريحات من أعلى خشبة المسرح. وجدد داود أوغلو التأكيد على أنهم مضوا قدما في المفاوضات والشروط الثلاثة "الاعتذار والتعويضات ورفع الحصار عن غزة" قائمة، زاعما أنهم لا يزالون يتمسكون بالموقف نفسه. وبعدها حزم الأمر ببعض الكلمات المسكنة التي من شأنها تهدئة مشاعر قاعدة الحزب من قبيل "أنهم لن ينسوا غزة وفلسطين حتى في أحلامهم". من الممكن فهم تصريحات داودأوغلو، ذلك أنه لاشك في أن التصالح مع إسرائيل ستصاحبه تكاليف سياسية. وإسرائيل هي أكثر دولة غير محبوبة في تركيا. على سبيل المثال أظهرت "أبحاث حول تصور الرأي العام للسياسة الخارجية لتركيا" المعلن عنها في شهر يونيو 2015 من قبل جامعة قادر هاس التركية أن نسبة الذين يرون إسرائيل دولة صديقة 0.4 في المئة من الشعب التركي. تبريرات عجيبة يقول الكاتب سولي أوزل، وهو مواطن تركي من أصل يهودي، إن الفئات المؤيدة لحزب العدالة والتنمية تقبلت حتى اليوم كثيرا من الأمور التي لم تعجب بها بتبريرات عجيبة، وأعتقد أنها ستفعل ذلك في نهاية هذا الأمر أيضا "قاصدا التصالح مع إسرائيل". ويقول أوزل، الذي يعد أحد أبرز الشخصيات خبرة في قضايا الشرق الأوسط وخاصةً في العلاقات الإسرائيلية التركية إن تحمل شريحة الإسلاميين السياسيين الاتفاق مع إسرائيل سيكون أمرا صعبا، مضيفا: "لكن إن رأت الحكومة أو بالأحرى رئيس الجمهورية أردوغان أن ذلك مناسبا، فلا شك في أنهم أيضا أي مؤيدي الإسلام السياسي من الشعب قد يرفعون أصواتهم بالمعارضة في بداية الأمر لكنهم سيستسلمون في نهاية المطاف". ويضيف الكاتب التركي في مقاله: شهدت الأيام الماضية كثيرا من الأسئلة بخصوص كيف أن انكسارا يجبر دولتين عدوتين على التصالح وتطبيع العلاقات بينهما. وثمة الكثير من الأسباب والدواعي التي يمكن أن نرجع إليها هذا التصالح، غير النقطة التي ينبغي تحديدها قبل أي شيء هي أن "خط السياسة الخارجية الأساسية الذي رسمته تركيا عقب "الربيع العربي" آل إلى نهايته بالفعل". أي أن تركيا تشهد اليوم تراجعا اضطراريا عن سياسات قيادة العالم الإسلامي والعثمانية الجديدة. وفي الوقت الذي صرحت فيه تركيا عن تصالحها مع إسرائيل فإن موقف روسيا التي أبدت ردة فعل دبلوماسية شديدة للغاية على تركيا عقب إسقاط إحدى مقاتلاتها هو أحد المبررات التي يتم تذكرها مباشرة. ويمكن النظر إلى تطبيع العلاقات بين إسرائيل وتركيا التي تبحث عن ملاذ يحميها من مخالب روسيا التي تهاجمها بدمدمات مخيفة وتلجأ إلى حماية دول حلف شمال الأطلسي "الناتو" من جديد، على أنها محاولة من تركيا من أجل تحسين تحولها الاضطراري هذا. إلا أن الأمر لا يقتصر على ذلك فحسب. وقد تزعم الحكومة التركية أنها اقتربت من إسرائيل التي ستصبح واحدة من أكبر موردي الغاز الطبيعي في شرق البحر المتوسط كتدبير مخفف للاعتماد المفرط البالغ 55 في المئة في الغاز الطبيعي الذي تستورده من روسيا. وطبعا يجب أن نأخذ في الاعتبار وألا ننسى أن إسرائيل لا تملك بديلا "مربحا" باستثناء تركيا من ناحية خط نقل الغاز، بمعنى أن الطرفين في حاجة إلى بعضهما البعض". جاء في دراسة وضعها نهاية 2015 معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدني: التطورات الأخيرة بين موسكووأنقرة يمكنها الإشارة إلى نهايةٍ مأساوية لفكر تركيا الإستراتيجي الجيوسياسي المبني على علاقات مع دول أوراسيا المنتشر في المجتمع التركي الاستراتيجي، والذي افترض لبعض الوقت أن المحور الروسي التركي قد يكون بديلا عمليا للعلاقات الدفاعية والأمنية التقليدية مع الغرب. وخلصت الدراسة إلى القول إن هذا الفكر القائم على إقامة علاقات مع دول أوراسيا قد لقي الدعم ليس فقط بين الحركات الاشتراكية في السياسة التركية، بل بين بعض الشخصيات المحافظة أيضا، لكن في أعقاب حادث إسقاط طائرة "سو-24" الروسية وخطاب الكرملين العدائي ضد أنقرة، لن يكون من السهل بعد الآن الدفاع عن مثل هذه الأفكار، على حد قول الدراسة الأمريكية. لقاء مصالح الكاتب والصحفي التركي إبراهيم تركمان وهو يستعرض واقع التطور الجديد في العلاقات بين أنقرة وتل أبيب، نسي أن هناك نقاط كثيرة لالتقاء المصالح والأهداف الإستراتيجية بين الطرفين. فتركيا تبنت تنفيذ نصيبها من مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي وضعه المحافظون الجدد في الولاياتالمتحدة وقد وضعت بعض لمساتها الخاصة عليه لزيادة نصيبها من المنافع. ولم تقاوم أنقرة حتى من باب حماية الذات وعلى ضوء مشاكلها مع الأكراد، المشروع الأمريكي الهادف إلى تأمين الكيان الصهيوني عبر تقسيم المنطقة إلى ما بين 54 و 56 دولة على أساس ديني وعرقي وطائفي ومناطقي بحيث لا تشكل دول المنطقة مستقبلا أي تهديد سواء على إسرائيل أو مصالح القوى الغربية وفي مقدمتها الولاياتالمتحدة التي ستعود إلى إحتلال المنطقة الممتدة من البوابة الشرقية للأمة العربية شرقا حتى السواحل الأفريقية على المحيط الأطلسي بإسلوب حديث يمكنها من السيطرة على ثرواتها وإقتصادها. أنقرة إنخرطت في عملية نشر ما يسمى بالفوضى الخلاقة في المنطقة عبر تأييدها للحركات المسلحة بمختلف الأشكال وعبر ما تسميه أحزاب الإسلام السياسي التي كانت تنفذ عن وعي أو بدونه أهداف مخطط الشرق الأوسط الكبير بإشعال نيران الحروب الطائفية والدينية التي لا تقود سوى إلى زيادة تقسيم المقسم وشرذمة المشرذم. سوقت واشنطن لمصطلح الشرق الأوسط الجديد بذريعة تغيير ما يعرف بالشرق الأوسط الكبير بوضعه الراهن الذي يقال إن حدوده المفتعلة وغير الطبيعية، تقادمت ولم تعد تصلح للمستقبل. بدأ تداول هذا المصطلح في الميدان السياسي لأول مرة في تل أبيب، في يونيو من عام 2006 على لسان وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة غونداليزا رايس. التعبير الجديد الذي استخدمته الإدارة الأمريكية السابقة عكس جانبين أساسيين. الأول أن الوقت حان لإجراء عملية تغيير شاملة لمنطقة الشرق الأوسط يمكن تشبيهها بالعملية الجراحية القاسية. الثاني أن رسم خارطة الشرق الأوسط من جديد سيكون مفتاحا لتحقيق ما يعتقد أنه استقرار سياسي واجتماعي يضمن أمن إسرائيل والمصالح الاقتصادية الأمريكية في المنطقة وفي صدارتها النفط. وتصادف في شهر يونيو من العام نفسه أن أعطى الخبير العسكري الاستراتيجي الأمريكي، رالف بيترس الشرق الأوسط الحدود التي يرى أنها عادلة في مقالة بعنوان "الحدود الدموية.. كيف يمكن رؤية الشرق الأوسط بشكل أفضل" نشرت في العدد السادس من المجلة العسكرية الأمريكية تضمنت خريطة جديدة للمنطقة مفصلة على أساس عرقي ومذهبي. على ضوء هذه القاعدة تفترض خريطة الشرق الأوسط الجديد في خطوطها العريضة أولا تجاوز التقاليد السياسية والمحرمات السابقة عبر إقامة دولة كردية تقتطع لها مناطق شمال العراق وجنوب شرق تركيا وأجزاء من سوريا وإيران. ثانيا تقسيم ما تبقى من العراق إلى دولتين شيعية وسنية. ويضاف إلى الدولة الشيعية مناطق من غرب إيران ومن شرق السعودية التي بدورها تقتطع منها المناطق الغربية المحاذية للبحر الأحمر والتي تضم الأماكن المقدسة في مكة والمدينة في دولة مستقلة تكون شبيهة بالفاتيكان. بالإضافة إلى ذلك يتم ضم جزء من مناطق السعودية الشمالية الغربية إلى الأردن. كل ذلك تتم الدعاية له وتسويقه عبر محاولة دفع إسرائيل إلى العودة إلى حدود ما قبل 1967 مع إدخال تعديلات حدودية تنسجم مع مخاوفها الأمنية بحسب مشروع رالف بيترس. يصب الحديث عن شرق أوسط جديد ترغب واشنطن في رؤيته على خريطة العالم وتجسيد رالف بيتيرس هذه الفكرة من خلال طرح استراتيجي متكامل، في خانة التمهيد والتحضير لبلقنة المنطقة، وهي مهمة أساسية لا ترتبط فقط بالمصالح الأمريكية الإقليمية، وإنما بالصراع الخفي الحالي بين الدول العظمى للاستحواذ على مناطق النفوذ الاستراتيجية، واكتساب نقاط في السباق على زعامة العالم اقتصاديا وعسكريا وسياسيا. وعلى الرغم من الادعاء بأن خريطة بيترس للشرق الأوسط الجديد، لا تعكس وجهة نظر وزارة الدفاع الأمريكية، إلا أنها تدرس الآن في منهج التخطيط الاستراتيجي في كلية ضباط الناتو العليا في روما، بالطبع بعد أن أجازتها الأكاديمية العسكرية الأمريكية التي يعمل بها رالف بيتيرس بعد تقاعده من عمله في مكتب نائب رئيس هيئة الأركان لشؤون الاستخبارات في وزارة الدفاع. ويؤكد رالف بيترس أن الحرب وحمامات الدم في خضم إعادة تقسيم الشرق الأوسط لا يمكن تفاديها، لأن العدالة التي نصب نفسه قيما عليها، تتطلب ذلك. والواقع لم تتوقف الخطوات الأمريكية لتسويق مشروع تقسيم الشرق الأوسط عند هذا الحد، إذ أن مجلس الشيوخ الأمريكي بادر في سبتمبر من عام 2007 إلى إصدار قرارا غير ملزم، دفع به وعمل على إنجاحه جو بايدن نائب الرئيس أوباما حاليا، يطالب الإدارة الأمريكية بتقسيم العراق إلى ثلاث مناطق اتحادية شيعية وسنية وكردية. وبالطبع رحب بالقرار بعض الأكراد وفي طليعتهم جلال طالباني الذي نصب بعد الغزو الأمريكي للعراق رئيسا. بين أنقرة وتل أبيب كتب سفيان ابو زايدة المعلق الفلسطيني الذي أمضى 12 سنة في السجون الصهيونية من داخل فلسطين المحتلة: هناك تفاهم ضمني بين تركيا وإسرائيل على الكثير من التطورات التي حدثت وما زالت على الحلبة السورية. مصلحة الطرفين إن تتفكك الدولة السورية، ومصلحة الطرفين، وان كانت أهدافهم مختلفة، أن يتم تدمير الجيش السوري وتقسيم سوريا إلى دويلات صغيرة. هذا يخدم المصلحة الإسرائيلية الاسترتيجية سواء كان من خلال التخلص من دولة كبيرة مثل سوريا وجيشها أو من خلال إزالة خطر مطالبتها بالانسحاب من الجولان السوري المحتل. أما تركيا فإن أطماعها في سوريا واضحة وسلوكها خلال السنوات الأخيرة من فتح حدودها لكل من يرغب في استنزاف الدولة السورية كانت ومازالت مفتوحة على مصراعيها. الجنرال المتقاعد جيورا ايلاند الذي شغل منصب رئيس مجلس الأمن القومي في إسرائيل كتب مقالا نهاية سنة 2015 ما تضمنه قد يعطي تفسيرا للأهداف الإستراتيجية التركية. يقول الجنرال ايلند: قبل عشر سنوات حين كانت العلاقات التركية الإسرائيلية العلنية في أحسن حال جاء مسؤول تركي كبير في زيارة إلى إسرائيل، وعندما التقيت به بحكم منصبي، ذهلت عندما تحدث لي عن الطموحات التركية في سوريا والعراق، حيث قال إن تركيا لم تقبل في السابق ولا حاليا تقسيم الحدود بعد الحرب العالمية الأولى وانتهاء عهد الإمبراطورية العثمانية، لقد اجحفوا بحق تركيا، لذلك عاجلا أم آجلا ستعيد تركيا رسم الحدود الجنوبية من الموصل في العراق حتى حمص في سوريا، سيما ان هذا الشريط تقطنه الأقلية التركمانية. إلى هنا انتهى حديث الجنرال جيورا ايلند. هذا كان قبل عشر سنوات، السياسة التركية خلال السنوات الأخيرة والتي تستغل جيدا ما يحدث في سوريا والعراق تسير تماما في هذا الاتجاه، وهذا بالتأكيد لن يزعج إسرائيل إذا كانت هي أيضا ستظفر بالجولان. حين تنتهي لعبة تركيا كتب الصحفي راشد صالح العريمي يوم 4 يناير 2016: تركيا العقيدة والجغرافيا والانتماء والتاريخ واللغة والعرق، بقيت تراوح مكانها أمام أبواب أوروبا من دون أن يسمح لها بالدخول الكامل أو الإنعتاق التام من الحلم المستحيل، فاقتصرت عضويتها على حلف "الناتو" الذي كان يحتاج إلى الجغرافيا التركية كقاعدة متقدمة لمواجهة الاتحاد السوفياتي ودول الستار الحديدي أيام الحرب الباردة. المجتمع الأوروبي بكل مكوناته منذ ما قبل "المسألة الشرقية" له موقف من تركيا، وحروب البلقان ﻻ تزال حاضرة في أذهان الأوروبيين، والتغييرات الديموغرافية والسكانية في بلاد البلقان لم تذهب من أذهانهم. أدرك الأتراك متأخرين خطأهم عندما جعلوا جل همهم أن يكونوا جزءاً من أوروبا، ولا سيما أنهم كانوا دولة فقيرة آنذاك، وغير مرغوبة عقديا وعرقيا وتاريخيا. كانت إسرائيل من ضمن الأبواب التي طرقتها تركيا في توجهها إلى أوروبا وأمريكا، إذ أقامت أفضل العلاقات معها منذ نشأة الكيان الصهيوني على حساب العرب حتى في المواجهات والحروب المصيرية، فكانت تركيا عمقا لإسرائيل في كل المراحل السابقة. ربما كان استمرار الرفض الأوروبي وتراجع حاجة "الناتو" إلى تركيا كقاعدة متقدمة بعد انتهاء الحرب الباردة، هو ما ساهم بالسماح لتيار الإسلام السياسي بالوصول إلى الحكم في أنقرة، بعد محاولات عدة قام بها أربكان وعطلها الجيش بدعم وحماية من العلمانية التركية الراسخة. تم الانتقال إلى حكومة حزب "العدالة والتنمية" في العام 2002 بعد بضعة أشهر من تأسيسه، من دون أن يكون هناك رفض داخلي أو خارجي، ولا سيما من إسرائيل والغرب، مع أن هذه الدول تدخلت في أمور أقل شأنا من تغير الوجه العلماني التركي بكثير. لاحقا تمت مساعدة الحزب على تخطي أزمة العسكر والجنراﻻت بالتدرج، لأنه كان يعد الناخب التركي بالتغيير الاقتصادي. وبتحقق ذلك عمل حزب "العدالة والتنمية" على المحيطين الإقليمي والعربي وكذلك الإسلامي، مفضلاً أن يظهر بصورة "الدولة الإقليمية العظمى" والحاضن السني الأكبر في المنطقة في تعويض عن صورة "الشريك البائس" التي يئس من تحقيقها مع أوروبا. مع مجيء حزب "العدالة والتنمية" بطابعه "الإسلامي المعتدل"، كما تم تسويقه وتصويره، ظهرت سياسات تركية جديدة، إذ أظهرت تركيا انحيازا إلى الحقوق العربية في شكل لافت للنظر تجاوز اهتمام العرب بقضاياهم، فكانت لتركيا التصريحات المعروفة أثناء العدوان الإسرائيلي على لبنان، ومن ثم على غزة. وأخذ رئيس وزراء تركيا آنذاك رجب طيب أردوغان على عاتقه فك الحصار عن قطاع غزة من خلال سفينة مرمرة وقضيتها الشهيرة، ولقاء دافوس مع الرئيس الإسرائيلي السابق شمعون بيريس، وهو اللقاء الذي حول أردوغان إعلاميا إلى "بطل قومي" تجاوز كل الحكام العرب. وكذلك عملت تركيا على تحسين علاقاتها مع جارتها سوريا بعد تأزم طويل، فمن تهديد تركي بقصف دمشق إلى تطوير علاقات توأمة اقتصادية واجتماعية وسياسية بين البلدين. في نهاية العقد الماضي تحولت تركيا من دولة مدينة إلى دولة دائنة، بل إنها قدمت قروضا إلى البنك الدولي. ويعزى جزء كبير من هذا التحول إلى انفتاح اقتصادها على دول الجوار العربي التي فتحت أسواقها للبضائع التركية وشكلت بوابة عبور لها إلى أسواق الخليج العربي وغيرها. ومع هذا التحول ظهرت نيات الهيمنة الإقليمية والفوقية في التعامل لدى تركيا، وصار أردوغان لا يتحفظ عن الحديث علانية عن أحلامه كسلطان عثماني جديد. ومع بداية ما يطلق عليه اسم "الربيع العربي" من تونس إلى مصر وليبيا وسوريا، أظهرت تركيا سياسة خاصة لا تتفق مع الأنظمة التي كانت تتعاون معها، ولا تتفق مع الميل الشعبي السائد في الغالب الأعم، ولا تلائم مستقبل المنطقة وشعوبها. إذ سرعان ما أسفرت تركيا عن حقيقة جديدة في علاقاتها بالبلدان العربية، فاقتصرت هذه العلاقات على الجماعات الإسلامية التي تجتمع معها إيديولوجيا، فكان دعمها للأحزاب الدينية في تونس وبطرق مباشرة فجة. كما كان تعاملها مع الشؤون الداخلية المصرية لتحقيق مصالح جماعة "الإخوان المسلمين" فقط، إذ تغنت بتلك الجماعة ودعمت أطرها الهاربة، واستضافت مؤسساتها الإعلامية، وعقدت على أرضها مؤتمرا للتنظيم الدولي ل "الإخوان" في محاولة لإعادة تنصيب الرئيس المخلوع محمد مرسي، ولم تشأ أن تخرج أصابعها من القضية المصرية حتى اليوم. وبغض النظر عن تباين الرؤى السياسية مما يجري في سوريا والعراق ومصر وليبيا، فإن تركيا تدعم الجماعات الدينية المتطرفة فيها، وتقدم لها كل التسهيلات المطلوبة وغير المطلوبة وتشكل ممرا آمنا لها، وتبذل جهودها كلها في سبيل وصول هذه الجماعات الدينية إلى الحكم. اليوم تجد تركيا نفسها تحت الضغط نتيجة اصطدامها غير المحسوب مع روسيا، وما أوقعت نفسها فيه نتيجة تدخلاتها في دول المنطقة، فضلا عن البرود الذي تشهده علاقتها بدول خليجية ترى أن تركيا في علاقتها معها تحاول أن تكسب من دون أن تعطي. وفي الوقت ذاته، تبحث تركيا المحاصرة اليوم في دائرة ضيقة عن مخرج لها أيضا في "إحياء" علاقاتها الطبيعية مع إسرائيل، بعد أن ساهمت في نزاعات دينية طائفية وأججت خلافات خطيرة في المنطقة. ترى، هل كان أردوغان مضطرا إلى نقض وضوئه بعودته إلى إسرائيل والتصريح علنا بأن "تركيا تحتاج إلى إسرائيل"؟ وهل تدهورت العلاقات التركية الإسرائيلية حقا خلال السنوات الماضية؟. ألم يكن من الأجدى أن يوقف أردوغان تدخلاته في مصر والعراق وسوريا وليبيا؟. أم أن تركيا عادت إلى ما كانت عليه، إذ لم تكن سنوات حزب "العدالة والتنمية" سوى وجه آخر لتركيا لتحقيق مصالحها؟. القادم سيكشف المزيد من هذه البراغماتية والالتفافات، وسيكشف للإنسان العربي الكثير من السذاجة عندما رأى في البراغماتية بطولة. هل من مخرج من المأزق ؟ كتب المحلل والصحفي عبد الباري عطوان يوم 25 ديسمبر 2015: هناك مثل تركي يقول ان المرء لا يستطيع أن يحمل بطيختين تحت ذراع واحد.. ولكن الرئيس التركي رجب طيب اردوغان الذي يعرف هذا المثل جيدا، وجد نفسه يحمل أربع بطيخات، وربما أكثر تحت الذراع نفسه، وجميعها من الوزن الثقيل جدا. تركيا الآن تخوض حربا شرسة ضد المتمردين الأكراد بقيادة حزب العمال الكردستاني وحلفائه شمال غرب سوريا، مثلما تنجرف بشكل متسارع إلى حرب باردة تسخن تدريجيا مع الروس، وتغرق في الملف السوري، دون وجود أي طوق للنجاة في الأفق، تعيش أزمة متفاقمة في العراق. من سوء حظ الرئيس التركي أن روسيا أصبحت تحاصره في الشمال والشرق، وباتت بعد تدخلها العسكري في سوريا دولة شرق أوسطية، وتصعد من وتيرة محاولاتها لإسقاطه وحكومته بشكل متدرج، ابتداء من العقوبات الاقتصادية، وانتهاء بالتدخل في الشؤون الداخلية التركية، ودعم المتمردين الأكراد. التاريخ يعيد نفسه، فمن المفارقة أن موسكو دعمت حزب العمال الكردستاني في الثمانينات، وطلبت من حليفها الرئيس حافظ الاسد ان يوفر الملاذ الآمن لزعيم الحزب، عبد الله اوجلان على الارض السورية، بهدف زعزعة استقرار تركيا التي كانت تمثل الخط الأمامي لحلف الناتو في مواجهة الإمبراطورية السوفييتية في عز الحرب الباردة، ولكن انهيار هذه الامبراطورية وانهيار الكتلة الاشتراكية، وحلف وارسو، ترك العالم برمته مفتوحا أمام القوة الغربية المنتصرة بزعامة أمريكا، واستخدمت تركيا أوراق ضغط عديدة على سوريا، من بينها تخفيض حصتها إلى النصف من مياه نهر الفرات بعد تشييد سد اتاتورك، والتلويح باستخدام القوة من خلال حشد القوات على الحدود السورية، مما دفع بالرئيس الأسد الأب إلى إبعاد اوجلان إلى كينيا، حيث تمت عملية اعتقاله وتسليمه إلى أنقرة. طموحات تركيا في سورية تتآكل، وسياساتها الخارجية تتغير بفعل التطورات المتسارعة، فاللافت ان المطالبات بإقامة مناطق عازلة على الحدود التركية السورية الشمالية الغربية بطول مئة كيلومتر، وعمق أربعين كيلومترا، لكي تكون مأوى للاجئين السوريين، ونقطة انطلاق للمعارضة السورية المسلحة تراجعت، بل وتبخرت كليا منذ التدخل الروسي العسكري، وقرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254 بشأن سوريا الذي ينص على التفاوض، ومرحلة انتقالية، ودون أي ذكر لحاضر الرئيس الأسد أو مستقبلة. الرئيس اردوغان استخدم الحرب على حزب العمال الكردستاني، وقال أنه سيخوضها حتى النهاية، ومهما كلف الأمر للوصول إلى الفوز في انتخابات أعطته فرصة العودة إلى الحكم بحكومة أغلبية، وربما يؤدي هذا اللعب على ورقة الوطنية التركية إلى وصوله إلى الدولة الرئاسية التي يتطلع إليها، ولكن ربما يكون الثمن باهظا، أي تثوير الأقليات في تركيا، وغرق البلاد في حرب أهلية، أي عكس ما أراده اردوغان في سوريا، أي تثوير الأكثرية ضد الأقليات، ولأسباب طائفية في معظمها. عمر نجيب [email protected]