وأخيرا انطفأت شعلة العشق بين الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة وبعض قادة الجيش الصقور إثر إقدامه أول أمس على عزل مدير المخابرات العسكرية الفريق محمد مدين من منصبه، وسط معلومات حثيثة تناقلتها وسائل الإعلام الفرنسية عن حرب حقيقية بين الرئاسة الجزائرية والاستخبارات العسكرية بعد 20 سنة من التعايش والتودد الزائفين في إطار احترام الطرفين لعدد من الخطوط الحمراء والتدبير المرن للهياكل السلطة. وضمن هذه الإقالة عين الرئيس بوتفليقة اللواء بشير طرطاق خلفا للفريق مدين، أحد أبرز الصقور العسكريين، المعروف بالجنرال "توفيق" الذي أكدت مصادر فرنسية أنه هو من "قدم استقالته منذ 10 أيام على الأقل". وأحال الرئيس الجزائري الفريق أحمد بوسطيلة قائد الدرك الوطني، إلى التقاعد، وعيّن بدلا منه اللواء نوبة مناد، الذي كان يشغل منصب قائد أركان قيادة سلاح الدرك الوطني في طاقم الفريق بوسطيلة. وفي إطار نفس الحركة، عيّن الفريق بوسطيلة مستشارا له برئاسة الجمهورية. وجرد بوتفليقة منذ سنة الاستخبارات من عدة أنشطة واختصاصات من بينها الإشراف على أمن الجيش وأمن الرئيس شخصيا، وحرمها من التصنت على مكالمات المسئولين ومن مراقبة الإعلام. وتم إلحاق هذه التخصصات بقيادة أركان الجيش. واعتُبر ذلك "ضربة موجعة" لرئيس الاستخبارات الفريق محمد مدين الذي تؤكد أوساط فرنسية عليمة أنه عارض التمديد لبوتفليقة بمناسبة انتخابات الرئاسة التي جرت العام الماضي. وقد أجمعت وسائل الإعلام الفرنسية ومعها شخصيات سياسية وازنة على أن إقالة الفريق مدين ما هي إلا بداية لصراع قوي يدور اليوم في الكواليس بين عناصر الجيش من جهة، وعدد من السياسيين وفي مقدمتهم شقيقه، سعيد بوتفليقة، ورئيس الحكومة، عبد المالك سلال، والأمين عام لحزب التجمع الوطني الديمقراطي الذي يشغل حاليا منصب ووزير الدولة أحمد أويحيى، والممثل الشخصي للرئيس، عبد العزيز بلخادم، وغيرهم لخلافة بوتفليقة على رأس دولة مثقلة بالأزمات والتجاذبات بين مختلف الطوائف والتيارات..جزائر مريضة بمؤسساتها وسياستها واقتصادها، وبالطابع الفردي للحكم الذي يمنح سلطات مطلقة لرئيس الجمهورية على حساب التوازن بين السلطات..جزائر تكرس الصراع الجهوي بين منطقة الغرب التي يحكم أهاليها البلاد منذ الاستقلال، ومناطق أخرى مهمشة. فجميع الأشخاص المنصبين بوزارات السيادة، هم من غرب البلاد بدءا من رئيس الحكومة ووزراء الخارجية والعدل والداخلية والنفط، إلى الرئيس بوتفليقة وهو نفسه وزير الدفاع. وفي خضم هذه الأجواء المشحونة، بدأت ترتسم بعض معالم الخارطة السياسية الجديدة بين ثلاثة فصائل قد يكون لها الحسم في تثبيت الرئيس الجديد في حال وفاة الرئيس بوتفليقة عافاه الله. الفصيل الرئاسي المساند بشكل عفوي لأي اختيار يبديه الرئيس، والفصيل العسكري المتشدد الذي يعيش حاليا بعض التهميش المقصود من طرف بوتفليقة وعلى رأسه الفريق مدين، والفصيل الثالث الذي يمثل الجيل الجديد من المعتدلين الراغبين في الوصول إلى تسوية تخرج الجزائر من دوامة الصراع الجهوي. ويجد عبد العزيز بلخادم الذي يقود تيار الإصلاحيين بجبهة التحرير الوطني، موقعه في هذا الفصيل. وما لم يكشف عن حقيقة الوضع الصحي للرئيس بوتفليقة بشكل يسمح لكل الفاعلين السياسيين تنظيم الخلافة بشكل سليم، فإن الصراع المحتدم الآن بين كل هذه الفصائل، قد ينقلب إلى مؤامرات تدخل البلد في دوامة العنف من جديد وتتيح للجيش الإمساك بزمام الأمور لتكريس واقع المرض الذي نقله بوتفليقة ومن سبقوه من رؤساء إلى عمق الجسد الجزائري المجروح. والحديث عن الجهاز العسكري يجرنا إلى النظر بالمجهر في دور الجنرالات والأجهزة الأمنية في الشأن السياسي الجزائري، من دون أن يغيب عن أذهاننا أن بوتفليقة هو الوريث الرئيسي للنظام العسكري الذي أوصله للسلطة بعد انقلاب سنة 1965، كعضو لما يسمى آنذاك ب"جماعة وجدة" أو "جماعة الغرب". وضمن هذا المنظور، فإن العلاقات بينه وبين الجيش كانت دائما مبنية على نوع من التعايش في إطار احترام الطرفين لعدد من الخطوط الحمراء والتدبير المرن للهياكل التقنية للسلطة. وقد تمكن بدهاء ودبلوماسية عاليين من تفادي التصادم مع الجيش بإقرار دور المؤسسة العسكرية في المعادلة السياسية الجزائرية، ونجح بتزكية من الجيش قي تمرير استفتاء المصالحة الوطنية سنة 2005 وبعده قانون العفو سنة 2006 الذي يدين كل شخص يحمل القادة العسكريين مسؤولية الأحداث الدموية بالجزائر. وقد قرأ المحللون في الترقيات الواسعة في صفوف الجنرالات التي أقدم عليها بوتفليقة قبل عشرة أشهر من إعادة انتخابه سنة 2014، خطورة لتكريس التعايش المستمر مع الجيش من جهة، والاستقواء به عند الحاجة لتقويض المعارضة، من جهة أخرى. وتساءل الجزائريون حينذاك عما إذا كانت تلك الترقيات السابقة لأوانها تدبير عادي من صميم الصلاحيات الرئاسية لمكافأة الجهاز العسكري وخاصة مديرية الاستعلامات، أم أنها مقايضة سياسية تضمن للرئيس بوتفليقة دعما قويا من قبل العسكر في حال تصاعد الغضب الاجتماعي الذي قد يعصف بنظامه بسبب العجز عن تدبير شؤون البلاد نتيجة المرض. ويشبّه مراقبون حالة مرض بوتفليقة بأجواء رحيل الرئيس الأسبق هواري بومدين، الذي نُقل للعلاج خارج الجزائر ولم يعد إلا لينقل إلى مثواه الأخير.. والمثير في التطورات الصحية للرئيس بوتفليقة هو الطريقة التي يتعامل بها الإعلام الرسمي الذي اختار تغييب المعلومة الصحيحة لتبقى محصورة في دائرة مغلقة من عائلته ومقربيه، وهو ما جعل الساحة الجزائرية عرضة للشائعات والتأويلات والارتباك..