على الرغم من الإيمان بأن الحياة قنطرة يعمرها الإنسان فترة قد تطول وقد تقصر، يكد ويسعى،يسعد ويشقى ، يفرح ويحزن، لكن ما لا يأمل في انتظاره أن يغادر مسرح الحياة بما لها وما عليها دون أن يخطط لذلك، فالموت للمرء قدر محتوم،يتربص به أينما كان وفي أي مكان، «أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة» (النساء / 78) فما على المرء إلا أن يعمل لآخرته كما عمل لدنياه، ويتزود بما يفسح له المجال لحياة أخرى أخروية هنية، (وتزودوا فإن خير الزاد التقوى» (البقرة / 197). طعم الموت مرّ لا نستسيغه ولا نستطعمه، يؤلمنا ويقض مضاجعنا، لكن شحنة من إيمان تشحننا بقبول ما سطره لنا قضاء الله وقدره، والترحم على من غادرنا مكرها، والتنويه بما خلفه من إرث علمي ومعرفي وصفات خلقية وغيرها للسير بنفس الخطى بعزم وثبات إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. هكذا يغادرنا الأستاذ محمد العربي المساري بعد حياة حافلة بالعطاء، فيلهب المشاعر بعواطف المحبة والتقدير لما أسداه لوطنه من خدمات جلى، وللأجيال من سديد الرأي والتوجيه لبناء مغرب راق متطورشامخ بحضارته ومنجزاته. إنه السفر الذي لم يستعد له، على الرغم من مضاعفات مرضه مؤخرا، واستشفائه من حين لآخر بمصحات الرباط، وكان كما تحكي رفيقة دربه باستمرار متفائلا بشوشا، إذ كيف يمكن لأي كان أن يستعد لسفر لا ترجى العودة منه، خاصة إذا كان هذا المسافر نشيطا متحركا، مقبلا على الحياة، قارئا نهما، متابعا لكل الإصدار بلغات مختلفة، وكاتبا يطاوعه القلم ،فلا يبخل في تسطير مؤلفات تنوعت مضامينها وتعددت محاورها، وإن كانت كلها تصب في وعاء الكتابة عن الوطن والتاريخ والأحداث. جذبته الصحافة منذ النشأة إلى أن التحق بخالقه راضيا مرضيا، وكانت جريدة العلم محرابه صباح مساء، لا يبغي بها بديلا، محررا فرئيس تحرير فمديرا، فكان أستاذا نبيها لجمهرة كبيرة من الصحفيين المغاربة وغيرهم ،مدرسة متحركة لأجيال شباب ارتضوا الصحافة مهنة لهم، كوَّنَهُم ووجَّههم وساعدهم على الارتقاء بالكتابة الصحفية وعلى التمرس بأساليبها، ساهم في إعداد أقلامهم للخوض في كل ما يستعصي عليهم تناوله بحذر ويقظة وتبصر، فكان الأستاذ والموجه والحكيم في كل ما يصدر عنه في حالتي الغضب والارتياح كلما أثار الفكرَ موضوعٌ أو حدث. رجل من طينة محمد العربي المساري يُذكر فيُشكر، أليس الصحافي المقتدر في عالم الصحافة المغربية والأجنبية ؟ أليس رئيس النقابة الوطنية للصحافة المغربية؟ أليس رئيس اللجنة الوطنية لإصلاح قوانين الصحافة والنشر؟ أليس رئيس لجنة أخلاقيات المهنة بوكالة المغرب العربي للأنباء؟،أليس الوطني المناضل بقلمه ومواقفه الهادئة؟ أليس النائب البرلماني والسياسي والقيادي في حزب الاستقلال؟ أليس الدبلوماسي المحنك الذي نجح في استقطاب دول أمريكا اللاتينية لمعرفة المغرب وهو سفير بلاده في البرازيل؟ أليس وزيرالاتصال الذي شد إليه الأنظار والأسماع فترة قصيرة من توزيره لرؤيته المستوعبة والذكية لتصحيح وضعية الإعلام في المغرب وإخراجه من عنق الزجاجة بسديد رأيه وعميق خبرته ؟ لكنه غادر المهمة التي اختير لها بكفاءة وتقدير، بهدوء وصمت ،بشموخ وكبرياء، عندما كان التيار معاكسا لآرائه ورؤاه وتوجهاته؟! أليس... يصعب في كلمات مختصرة وفي عجالة أن أتحدث عن محمد العربي المساري المتعدد الشخصيات، الواسع الأفق، الكاتب الصحفي، المؤرخ السياسي، الدبلوماسي النشيط الملتزم بقضايا وطنه داخليا وخارجيا لايهدأ له بال كلما شغله موضوع أو أثار قلمه حدث إلا بعد أن يسجل ما يراه صوابا أو توضيحا لمغالطات أو غيرها في أي وقت. محمد العربي المساري رجل خلوق، صفات النبل والمروءة زاده أينما حل وارتحل، رجل بشوش، تنبني علاقاته مع الآخر على الاحترام والتقدير، لا تراه إلا والبشر يعلو محياه كيفما كانت الظروف، يحسن خطاب كل فئات المجتمع بأدب جمّ، بتواضع ومودة، رجل برع في رسم مسار حياته بخيوط مضيئة لفتت وتلفت إليه الأنظار، رجل أنيق في مخبره ومظهره، في بيته ومكتبه ، فلا يريك إلا كل جميل فيبهرك للارتواء من معين عطائه ،واقتفاء خطاه في طريق لاحب محجته الصدق والوفاء. رجل لا تزيده الأيام إلا إشراقا، والمواقف الهادئة إلا تقديرا، والثبات على المبدإ إلا بهاء ،هكذا عاش حياته شامخا قويا، سطرا مضيئا في تاريخ المغرب السياسي والوطني والفكري والتاريخي. عزاؤنا واحد في رجل وهب حياته لوطنه، وعزاء لأسرته؛ أرملته السيدة ثريا الشرقاوي وأبنائه نزار وياسر ومنى ومحل ابنته زاهية، ولشقيقته السيدة فطوم المسارية، وللأصهار، وللمغاربة قاطبة أحزابا وصحافيين وكتابا ومؤرخين، أصدقاء ومعارف، رحمه الله وأحسن إليه وبوأه مقعد صدق عند مليك مقتدر. وأخيرا لابد من الإشارة إلى حدثين مؤلمين في هذا الأسبوع، كان وقعهما مؤثرا،والرزء بهما كبيرا، فقد فَقّدَ المغرب خلاله علمين بارزين في عالم الكتابة والإبداع، ينتميان معا إلى مدينة تطوان، الحمامة البيضاء، وإلى المغرب الوطن الكبير، وكان لهما حضور وازن في الساحة الثقافية المغربية؛ الأديبة اللامعة أمينة اللوه، أول خريجة جامعية في المغرب وأرملة الوطني إبراهيم الإلغي، وافتها المنية بحر الأسبوع الماضي، مساء يوم عيد الفطر ،ثم ووري جثمانها الثري يوم الأحد 19 يوليوز 2015 بمدينة تطوان، ووافت المنية الصحفي المقتدر محمد العربي المساري مساء يوم السبت 25 يوليوز 2015 ،ثم ووري جثمانه الثري يوم الأحد 26 يوليوز بمقبرة الشهداء بالرباط، رحمهما الله وجازاهما على ما قدماه للفكر المغربي بسخاء من كتابات ومؤلفات.