شهر رمضان هو الشهر الوحيد الذي تتجلى فيه بقوة مظاهر ارتباط المسلمين في ديار الغربة بالعادات والتقاليد الإسلامية، ورفضهم محاولات التذويب في إطار ما أصبح يسمى بالاندماج الناجح الذي تحاول بعض الأوساط السياسية الفرنسية فرضه على الجالية الإسلامية دون أن تضع في الاعتبار اختلاف الثقافات وتباعد أنماط الحياة وغياب التجانس في البيئة والتنشئة والمحيط. وتقوم الصحف والمحطات الإذاعية الاغترابية بدور كبير في ما يخص نشر وتعميم ثقافة الانتماء في أوساط أبناء الجالية الإسلامية وتقوية الوعي لديهم بسعي بعض الفئات الحاقدة في المجتمعات الغربية إلى ابتلاعهم وتقويض عقيدتهم. ويستعرض الإعلام الاغترابي باحترافية عالية، إسهامات الجالية الإسلامية في مجالات مختلفة كالسياسة والاقتصاد والرياضة والفن، والتي تعتبر إشارات قوية في اتجاه المسكونين بهاجس الخوف من الهجرة تحت ذرائع مختلفة معظمها مرتبط بما يسمونه بالتطرف الديني. وتبث المحطات الإذاعية الموجهة للشباب المغاربي برامج مسترسلة خاصة بشهر رمضان حيث تحل تلاوة القرآن ونصائح الطبخ وندوات حول الفكر الإسلامي محل البرامج الموسيقية المعتادة. وتتنافس هذه المحطات ومعظم مالكيها من تونس والجزائر ولبنان لبث سيل من الأخبار عن أحوال المغتربين في رمضان.. ويتميز نشاط المحطات الاغترابية بتكثيف تغطيتها إلى ما وراء الحدود لتخرج بتقارير مصورة ولقاءات من مختلف عواصم العالم الإسلامي بالإضافة إلى تقارير مفصلة عن رمضان في باريس تشرح فيه للمتلقي المسلم والفرنسي معا، طقوس كل بلد في استقبال هذا الشهر المبارك والأهمية الدينية والروحية التي يختزلها في قلوب الصائمين. وتقدم الإذاعات العربية التي تبث من باريس مثل (إذاعة الشرق وراديو شمس وراديو فرانس مغرب وراديو مونتي كارلو) مجموعة من البرامج الدينية والترفيهية الخاصة برمضان في سعي منها إلى ربط الصائم بلغته ودينه وعاداته الأصيلة. وتنقل إذاعة الشرق منذ العشر الأواخر من شهر شعبان، شعائر الصلاة مباشرة كل ليلة من مكةالمكرمة، فيما برمجت كافة الإذاعات فقرات دينية وأدعية، تليها فترة المنوعات المسلية ومسابقات مختلفة خاصة برمضان. وتلقى البرامج الإذاعية الموجهة للمغتربين إقبالا واسعا في المقاهي المليئة بروادها من عشاق الشيشة بعد الإفطار. وقد شهد عدد هذه المقاهي ارتفاعا كبيرا في مختلف مناطق فرنسا رغم قرار الحكومة بمنع التدخين داخل الأماكن المغلقة، حيث ابتكر أصحاب المقاهي أماكن للسهر مفتوحة على شكل خيم لكي يتمتع الساهر بنسيم الشيشة التي أصبحت اليوم عادة اجتماعية عربية وفرنسية أيضا. وفي سياق متصل، أعدت القناة الفرنسية الخامسة في اليوم الأول من رمضان برنامجا معززا بشريط وثائقي من أربعين دقيقة عن مكانة هذا الشهر في الإسلام، خلصت فيه إلى أن الشباب المسلم في فرنسا يبدو أكثر حرصا على أداء فريضة الصيام الذي يحظى، برأيها، بقيمة خاصة بين جميع شرائح المسلمين حتى الذين لا يبدون اكتراثا بممارسة الفروض الدينية الأخرى. ولا بد من التذكير هنا بأن المغرب غائب بالمرة عن الشأن الإعلامي الاغترابي كما عن الشأن الثقافي، حيث لا إذاعة ولا تلفزة ولا مركز ثقافي واحد للمغرب بفرنسا، بينما للجزائر محطة إذاعية وأخرى تلفزية تعنيان بشؤون الجالية الجزائرية، ومركزان ثقافيان واحد بباريس وآخر بمرسيلية. ولكل دولة عربية بما فيها جيبوتي وموريتانيا مركز ثقافي بباريس باستثناء المغرب الذي اختار القطيعة مع كل ما هو إعلامي وثقافي قد يخدم الجالية المغربية في ديار الغربة، وذلك فق منظور يغيب البعد الاستشرافي والإشعاعي للإعلام والثقافة. ومثل هذا التوجه ينم عن قصور شديد في فهم واستيعاب القائمين على الشؤون الجالية المغربية لوظيفة الثقافة والإعلام في الشأن الاغترابي الذي أفرز وما يزال حالات متباينة من الانحصار النفسي والثقافي المفروض على الجالية المغربية الميالة إلى التقوقع والانغلاق بعد أن استعصى عليها الانصهار في تفاصيل الحضارة الغربية من جهة، وإدراك مكونات ثقافتها الأصلية، من جهة أخرى. فذاكرتها الثقافية فارغة تنطلق من الصفر، ولا تجد من القائمين على شؤونها من يصالحها مع ثقافتها ونشأتها الاجتماعية. ويكفي المغرب الذي قد يرى في الإعلام همّا زائدا، التفرج على ما يضعه البلد المضيف من آليات جديدة لجر المهاجر إلى حمل ثقافته ولو جزئيا تمهيدا لعزله وتذويبه كي يحتضر شيئا فشيئا في إطار ما يمكن تسميته بالعنصرية الهادئة أو المقنعة.. فتهميش الإعلام والثقافة هو تهميش للتواصل الذي يمكنه وحده ممارسة فعل التغيير في اتجاه التفاعل القادر على تحويل ازدواجية الغربة (الغربة مع الوطن والغربة مع أنماط الثقافة الغربية)، من ازدواجية للتصادم والتذويب إلى ازدواجية للتوافق والتصالح. وأشكك في أن يكون في القاموس السياسي المغربي مكان للثقافة والإعلام الاغترابيين حيث الدبلوماسية المغربية في باريس تبدو اليوم وكأنها تسير بدون دليل ثقافي، مصرة على التمسك بالأساليب الماضوية التي تجسد غياب الوعي الحقيقي بالمتطلبات الجديدة للجالية المغربية التي هي في أمس الحاجة لمن يعطيها شحنات إضافية للتطور.