لقيتها يا ليثني ما كنت ألقاها تمشي وقد أثقل الإملاق ممشاها أثوابها رثة والرجل حافية ... والدمع تذرفه في الخد عيناها اذكر هذه القصيدة يوم كنت تلميذا في قسم المتوسط الثاني، حفظتها عن ظهر قلب لكلماتها المؤثرة ومشاعرها الصادقة، هكذا أبدع الشاعر معروف الرصافي في وصفه لأرملة وبنتها الصغيرة توفي الزوج وتركهن للفقر والبؤس، مناسبة هذا الكلام أني تذكرت هذه الأبيات وأنا أسمع شجون سيدة ينادي عليها أهل الحي ب «أمي عيشة» وهي بائعة سجائر بالتقسيط بمدينة الجديدة، صادفتها مساء يوم عيد الضحى وكدت أدمع ويا ليثني ما كنت التقيتها ، فهذه المرأة التي تعيش في احد أحياء الجديدة الفقيرة مع زوج كفيف وولدين لم تتمكن مثل اسر أخرى من شراء أضحية العيد ولا تملك ما تسد به الرمق هي وأسرتها .. خرجت يوم عيد الأضحى لتقتعد نفس المكان لتبيع السجائر وكان المدينة التي هي فيها لا تعيش عيدا أو يحزنون .. هي امرأة عادية ولكنها ليست كسائر النساء، فالمرأة عامة رمز للجمال والأنوثة والأناقة خاصة أيام العيد ، أما هذه فهي تمثال حي للهرم و الشقاء البشري.. قلب الدهر عليها ظهر المحن فلم تعد تقوى على مجابهة الأيام و تصاريفها،إنها أمي عيشة امرأة تعيش بيننا ، تتنفس الهواء الذي نتنفّسه وترى الأشياء التي نراها ولكنها لا تشعر البتة بقيمة الجمال الذي يملأ دنيانا و لا ترى ضرورة لذلك لان الهم أظناها والظلم أوجعها، همها بل كل همها أن تكسب قوت أولادها و أن يسترد زوجها المريض حقا ضاع منه فتقول أملنا كبير في الله و في العدالة المغربية أن تساعد زوجي على أن يسترد حقه من ارث أخته المتوفية والذي سطا عليه زوجها حارما ذوي الحقوق من حقهم في الإرث معه مع العلم انها كانت قيد حياتها هي من تشفق لحالنا.. وأضافت أمي عيشة التي كانت تسرح بنظراتها في الفراغ خلال يوم الأضحى تاركة بيتها الفارغ من الحياة والسعادة: أتمنى إحالة ملف زوجي على المركز القضائي للدرك الملكي اوالفرقة الوطنية للشرطة لاستجلاء الحقيقة لان الأمر يتعلق حسب شكاية زوجي بخيانة للأمانة خاصة ونحن أسرة في أمس الحاجة للمساعدة فالزوج مريض لم يغادر البيت منذ 15 سنة والبنت قاصر والولد لا يستطيع تدبر أمره فكيف له أن يتدبر أمر أسرته ؟ اعتاد أهل الحي رؤية هذه المرأة السبعينية ، وجه مألوف، تجلس دوما في الشارع القريب من سوق بن إبراهيم حي لالة زهراء بمدينة الجديدة وهي تبيع السجائر، كل مدخني السجائر تربطهم بها المودة و الصداقة، هي حرفة لم تكن مهنتها من قبل، بل دفعتها لها قساوة الظروف لتكسب عيش أسرتها، فقبل ذلك كانت ربة منزل والمتولية لرعاية شؤونه، تعيش وأسرتها حياة الكفاف والعفاف والغنى عن الناس، وقتها كان زوجها مبارك ناتج يمارس التجارة، لتجد نفسها بين ليلة و ضحاها بدون معيل بعد أن أنهك المرض زوجها وذهب بنور عينيه، استمر كفاح هذه السيدة ،ورغم الحزن العميق البادي على وجهها فهي مستعدة للتضحية بنفسها إرضاء لزوجها وأولادها و لو على حساب صحتها و كرامتها، وحين سألتها كيف مر العيد؟، قالت أمي عيشة متحسرة : لقد زاد ألمي في هذه الفترة بسبب البرد الشديد مما دعاني إلى ترك العمل مؤقتا لأني كنت طريحة الفراش، لم أستطع أن أشتري لأولادي أضحية العيد... وما زاد من ألمي وكربي عندما شم أولادي رائحة اللحم المشوي تنبعث من عند الجيران يوم العيد. فقد عملت جاهدة على منعهم الخروج من المنزل لئلا يروا رؤوس الأضاحي تشوى ولكن رائحة الشواء دخلت علينا دون استئذان من هذا الباب المتلاشي والنوافذ المكسرة.. إنها بكل بساطة أمي عيشة كما يحب بعض مدخني السجائر تسميتها أو بائعة السجائر بشارع لالة زهراء.. هي مازالت هناك معرضة لكل شيء تعيش وأسرتها على أمل البت في قضية أصبحت شغلهم الشاغل لعل الظروف تتغير ويخرجوا من محنة سببها صهر طماع اخذ كل ما تركته زوجته الثرية دون أن يفكر في من تركتهم من ذوي حقوق هم في أمس الحاجة إلى المساعدة.