يمثل غياب مخططات التنمية في الجزائريين وما يخلفه من أزمات اقتصادية واجتماعية متراكمة تحديا كبرا لنظام الرئيس المريض، الذي يوجد في فوهة مدفع غليان شعبي يهدد بإسقاط أركانه في ظل غياب استراتيجية واضحة قادرة على استيعاب متطلبات المواطن، الذي يرزح تحت ثقل التهميش وارتفاع الأسعار، ويزداد هذا الوضع سوءا مع تراجع أسعار النفط الذي ترتكز ميزانية الدولة على جزء كبير من عائداته. وفي الآونة الأخيرة، تصاعدت الاحتجاجات في الجزائر ما ينذر بتفجر الوضع في أيّ لحظة بوجه نظام الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة، الذي اقتصرت معالجته للأوضاع الاجتماعية على مسكنات لم يعد الشعب الجزائري، بمختلف قطاعاته وتلويناته، يستسيغها، مطالبا بحلول جذرية لأزماته المتراكمة، وفي مقدمتها ارتفاع الأسعار، وسير الدولة باتجاه الخصخصة متجاهلة انعكاساتها الاجتماعية الخطيرة، فضلا عن تراجع معدل الدخل الفردي. ومع تهديد أكثر من 30 ألف عامل في المنطقة الصناعية بالرويبة بالعاصمة بالزحف على مقر الوزارة الأولى في حال استمرار الحكومة في خصخصة المؤسسات الحكومية، يتواصل الإضراب المفتوح للأساتذة الذي بات يهدد بموسم دراسي أبيض، أمام تعنت الحكومة وإغلاقها الباب في وجه أيّ صيغة توافقية بينها ونقابات التعليم. وقد عمدت وزارة التعليم أخرا، إلى مزيد من التصعيد، ملوحة بعصا الخصم لرواتب الأساتذة، وجلب متقاعدين لملء الفراغ في المؤسسات التعلمية، الأمر الذي يبقي أبواب الأزمة مفتوحة على مصراعيه. واستغرب الناطق الإعلامي لنقابة المجلس الوطني المستقل لأساتذة التعليم الثانوي والتقني مسعود بوذيبة، سياسة وزارة التربية في محاولة تجاوز الإضراب، والذهاب إلى حلول سهلة باستدعاء المتقاعدين لتعويض الأساتذة المضربين، والإصرار على عدم التفاوض مع نقابتهم لوضع حد لحالة الاحتقان التي تخيم على قطاع التربية والتعليم في الجزائر منذ سنوات. وذكرت مصادر جيدة الاطلاع، أن مماطلة وزارة التربية في التوصل إلى أرضية اتفاق مع نقابات التربية التي رفعت عصا التمرد على الوصاية منذ أكثر من شهر، يعود إلى عجز الوزارة على إعطاء ضمانات للمضربين بشأن بعض المطالب التي تكلفها الميزانية الجديدة. وتأتي هذه المتاعب الاجتماعية للحكومة لتكرس عجزها الواضح عن الاستمرار في سياسة شراء السلم الاجتماعي، بعدما تراجع الميزان التجاري للبلاد بنحو 40 بالمائة في الثلاثي الأخير من السنة المنصرمة. ويرى خبراء اجتماعيون أن تسويق السلطة للاستقرار في البلاد هو "بيع للأوهام وترويج لبضاعة كاسدة في ظل حديث الأرقام عن حوالي عشرة آلاف احتجاج سنويا في البلاد، الأمر الذي يعكس حجم الأزمة التي يتخبط فيها الجزائريون منذ سنوات. وفي هذا السياق، يقول الخبير عبد الحق العميري أن غياب استراتيجية واضحة للتنمية، جعل الحكومة تتعامل مع المطالب الفئوية بمنطق "خذ واسكت". واعتبر العميري أن سياسة الدعم الاجتماعي للمواد الاستهلاكية سياسة غير عادلة ما دامت تضع الفقير والمعوز ورجل الأعمال والمقاول على درجة واحدة، لافتا إلى أن اللجوء لرفع الأجور في كل مرة دون تحقيق نمو اقتصادي والتعامل الفئوي مع المجتمع، ولّد حالة من اللاعدل الاجتماعي والتأليب الفئوي، ومع الشغور التدريجي لخزينة البلاد تسير الحكومة إلى المواجهة الحقيقية مع الوضع الاجتماعي والاقتصادي القائم". وأعادت التداعيات المباشرة لتهاوي أسعار النفط في الأسواق الدولية على مداخيل الخزينة العمومية، مقابل استمرار الاحتجاجات الاجتماعية بشكل يومي في مختلف ربوع البلاد، سيناريو انتفاضة أكتوبر 1988 إلى الأذهان، ففي ظل تشابه المناخ الاجتماعي والسياسي في المحطتين، وتوسع المطالب الفئوية للجزائريين أمام عجز الحكومة عن الاستمرار في سياسة شراء السلم الاجتماعي بالريع النفطي، تكون البلاد برمتها على فوهة بركان يمكن أن يهدد بقاءها في أيّ لحظة. وتأتي هذه التعقيدات الاجتماعية التي عملت على تنمية حالة من الكسل والاتكال الكلي على الإنفاق الحكومي، لتنضاف إلى مؤشرات منتظرة في المدى القريب والمتوسط، يفرضها التراجع القسري للحكومة عن دعم المواد الاستهلاكية، وإعادة النظر في مشروعات المخطط الخماسي 2014 – 2019 ، الأمر الذي سيسفر عن تراجع محتمل في القدرة الشرائية للجزائريين وتوجه مؤشر البطالة للارتفاع من جديد بسبب وقف الاستثمارات الحكومية لبرامج البنى التحتية والبناء، التي كانت تشغل أعدادا معتبرة من الجزائريين. وتجلّى ذلك في موجة الغلاء الجديدة التي تعرفها الأسواق الجزائرية في مختلف المواد الاستهلاكية، كنتيجة آلية لتراجع العملة المحلية أمام سلة العملات الأجنبية، حيث عرف الدينار الجزائري منذ نهاية العام الماضي تراجعا بحوالي 20 بالمائة من قيمته أمام عملتي الأورو والدولار الأمريكي، الأمر الذي ساهم في ارتفاع أسعار المواد المستوردة. وتبقى مشاكل التنمية المحلية ومعضلات البطالة والسكن أبرز الدوافع التي ترمي بالشارع للاحتجاج اليومي وقطع الطرقات وغلق المقار الحكومية، في ظل غياب مجتمع مدني ناجع يتبنى انشغالات المواطنين، وعجز حكومي واضح عن إيجاد الآليات الإدارية والسياسية في استشراف القلاقل الاجتماعية والتعامل معها قبل حدوثها، فالبيروقراطية وديمقراطية الواجهة عمقا الهوة بين الشارع والسلطة.