إعادة نشر الرسوم الكاريكاتيرية إيّاها في عدة صحف فرنسية، وعلى غلاف العدد الجديد الذي سيوزع اليوم (الأربعاء) من مجلة شارلي إيبدو، هو عمل من أعمال التحريض على الكراهية يجرّمه القانون الفرنسي والقوانين الدولية، يتعارض كليًا مع المصالح الوطنية العليا للجمهورية الفرنسية، التي تعبأت أجهزتها لحماية الأمن الوطني، ولدرء المخاطر التي تهدد السلم الأهلي والوحدة الوطنية الفرنسية، في هذه الظروف العصيبة التي تمر بها فرنسا. دع عنك أن إعادة نشر تلك الرسوم تنطوي على تحدّ مباشر وسافر لستة ملايين من المواطنين الفرنسيين الذين يدينون بالإسلام، ويرون في ازدرائه والإساءة إلى رموزه والسخرية منها، إهانة ً لهم، وانتهاكًا لحق أصيل من حقوقهم، وهدرًا لكرامتهم، وتأجيجًا لنيران الكراهية والعنصرية والتمييز. وهو ما يَتَنَافَى وقيم الجمهورية ومبادئ الثورة الفرنسية تنافيًا مطلقًا ينذر بعواقب وخيمة على جميع المستويات. إن نشر تلك الرسوم البذيئة المشينة الحقيرة في الصحافة الفرنسية، في هذه الظروف التي لا تطمئن، لا يمكن أن يفسر بأنه ممارسة لحرية التعبير الذي هو حق مقدس في فرنسا كما يقال. فطابع التحريض على اضطراب الأوضاع وزعزعة الاستقرار، وعلى الإضرار بالأمن الوطني الفرنسي، ظاهر بشكل في منتهى الوضوح، مما يجعل هذا النشر المتعمد خروجًا على الإجماع الوطني الفرنسي الذي يتمثل اليوم في رفض الإرهاب والتصدي على أعلى المستويات لمحاربته. فهذا النشر هو بالمقاييس الفرنسية، إرهابٌ من الإرهاب، وإن كان بدون سلاح ناري؛ لأن الإساءة إلى جزء من الشعب الفرنسي بنشر رسوم كاريكاتيرية مسيئة إلى رسول الله محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام الذي يؤمن بنبوته وبرسالته وبالكتاب الذي أنوزل عليه من رب العالمين، نحو عشرة في المائة من الشعب الفرنسي، هي إهدار لحرية المعتقد والضمير الذي نص عليها إعلان حقوق الإنسان والمواطن، وأكد عليها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والدساتير الأوروبية والأمريكية، بل تضمنتها الدساتير في غالبية دول العالم. فهل ثمة إصرارٌ غريبٌ ومريبٌ على الإساءة إلى المسلمين المواطنين الفرنسيين، بهذا القدر من التحدي الذي هو ضربٌ من الجنون؟. هلي هي دعوة من الصحافة الفرنسية إلى تكرار ما جرى؟. وهل من مصلحة فرنسا أن تقع كارثة أخرى لا يريدها عاقل، ولا يرغب فيها أي إنسان محب للسلام ورافض للإرهاب؟. وهل مجلة شارلي إيبدو تلعب بالنار وتشاركها في هذا اللعب المجنون صحف فرنسية أخرى بحسب أصحابها أن إعادة نشر تلك الرسوم هو عمل من أعمال محاربة الإرهاب؟. وهل يحارب الإرهاب بهذا الأسلوب الذي ينم عن غباء وسوء تقدير ومعاكسة للتيار العام في فرنسا، وفي جميع أنحاء العالم، الذي يرفض الإرهاب ويدينه ويجرّم الوالغين في الدم المسفوح من جرائمه؟. إنه أمرٌ تحار العقول في فهمه وإدراك الغاية من ورائه. فرنسا تنتفض ضد الإرهاب، وتخرج في مسيرات مليونية عفوية ومعها بعض من قادة العالم، بينما يوغل قسم من الإعلام الفرنسي في ارتكاب جريمة التحريض على الكراهية الذي يؤدي إلى ممارسة الإرهاب على مرأى الجميع ومسمعه. فهل هذه هي فرنسا الأنوار، فرنسا حقوق الإنسان، أم هذه فرنسا الاستعمار وهضم حقوق الشعوب التي أخضعتها لسيطرتها واحتلالها لها؟. هل تعيدنا الصحف الفرنسية التي نشرت تلك الرسوم إلى عقود من الزمن مضت، حينما كانت صورة فرنسا في العهد الاستعماري غير مرغوب فيها، وتثير السخط والغضب والاشمئزاز في نفوسنا؟. لقد أسقطنا الماضي من حسابنا، وانفتحنا على الدنيا، ونحن نضع المصالح العليا للوطن فوق كل اعتبار، وقد تحررنا من العقد التي تراكمت، فنحن شعب متحضر نتطلع إلى التعاون والشراكة وبناء جسور التفاهم والوئام والاحترام المتبادل مع دول العالم. ولكن هل في نشر هذه الرسوم أي قدر من الاحترام لنا؟. وهل ازدراء الدين الإسلامي والإساءة إلى الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، يُبقيان مساحة للاحترام؟. أليس في ذلك عدوان على ديننا، وهويتنا، وكرامتنا؟. بل لماذا لا نقول إنه عدوان على سيادتنا وعلى استقلالنا الوطني بالمفهوم العميق للاستقلال الوطني؟. إن قسمًا من الإعلام الفرنسي يصر إصرارًا متشنجًا وعجيبًا، على إبقاء فرنسا في حالة توتر واضطراب وعدم استقرار. وليس هذا في مصلحة فرنسا، ولا هو في مصلحة العالم أجمع. استقرار فرنسا وانتصارها في معركة مواجهة الإرهاب، يخدمان مصالحنا نحن بقدر ما يخدمان مصالح الدولة الفرنسية. فهل نقول بالوضوح الكامل، إن إعادة نشر تلك الرسوم جريمة في حق الدولة الفرنسية؟. أليس هذا شكل من أشكال الإرهاب الذي نحاربه جميعًا، ونتبرأ من مرتكبي جرائمه بدون أي تردد، ومهما تكن المبررات أو الانتماءات؟. إن الإسلام الذي تشوّه الصحافة الفرنسية (أو بعبارة أدق بعض الصحف الفرنسية) رسوله الكريم، هو دين السلام والمحبة بين البشر، يحرم قتل النفس بغير حق ويرفض الإرهاب بكل أشكاله على وجه الإطلاق، ويدعو إلى السلام، ويحض على الإخاء الإنساني وعلى تعزيز التعاون الدولي فيما يعود بالمنافع والفوائد والمصالح المشروعة على الأمم والشعوب. إن الموقف الرسمي للدولة المغربية إزاء المشاركة في مسيرة يوم الأحد في باريس، هو موقف حكيم، وموقف وطني يعبر عن خصوصياتنا وقيمنا وهويتنا. فالمغرب على المستويين الرسمي والشعبي، يقف ضد الإرهاب بكل صوره، يدينه ويرفضه ويتعاون مع المجتمع الدولي في محاربته، وقد قدم تعازيه في ضحايا الحادث الإجرامي للرئيس الفرنسي، ولكنه ليس مع من يزدري ديننا، ويسيء إلى نبينا، ويحرض على كراهيتنا.