في تركيا يحتدم الصراع بين الحكومة وبين جماعة (خدمة) التي يرأسها أو يتزعمها أو يقودها المفكر والداعية محمد فتح الله كولن من موقعه في الولاياتالمتحدةالأمريكية. وتتفاقهم الأزمة التي بدأت في السابع عشر من شهر ديسمبر 2013 بشكل متزايد لتشكل إحدى الأزمات السياسية التي تؤثر في الحياة العامة على المستويات جميعاً، سياسياً واقتصادياً، واجتماعياً، وأمنياً، مع مضيّ الوقت واقتراب موعد الانتخابات التشريعية في شهر مايو المقبل. وتراهن حكومة حزب العدالة والتنمية على الفوز في تلك الانتخابات بالدرجة التي تجعلها تمتلك السيطرة على اتخاذ القرارات الحاسمة وتشريع القوانين المفصلية، وفي المقدمة منها تعديل الدستور، لينتقل الحكم من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي الذي أصبح الآن في حكم الواقع نظرا للهيمنة التي يمارسها رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان على الحياة السياسية في البلاد على حساب رئيس الحكومة أحمد داود أوغلو، رئيس الحزب الحاكم. أما جماعة (خدمة) فهي تراهن حسب التحليلات التي تنشر في الصحافة التركية، على إضعاف الحكومة وإرباكها، وسحب الشعبية التي تتمتع بها منها، تمهيداً لهزيمتها في الانتخابات البرلمانية. وهو رهان محفوف بمخاطر كثيرة، نظراً للقوة التي يتمتع بها الحزب الحاكم التي تبدت بالوضوح الكامل في الانتخابات الرئاسية وقبلها في الانتخابات البلدية التي فاز بها حزب العدالة والتنمية. وعلى الرغم من عدم تكافؤ الفرص أمام الغريمين اللدودين، فإن الحكومة تصر على إطلاق وصف (الكيان الموازي) على جماعة (خدمة). وبالتحليل الدقيق لهذا المصطلح الذي تنفرد به تركيا، نجد أن المعنى الذي يعبر عنه هو (الدولة الموازية) أو بعبارة أخرى متداولة في الأدبيات السياسية، (الدولة داخل الدولة). ذلك أن الحكومة التي تصف حركة فتح الله كولن بالكيان الموازي، لاتضع في اعتبارها أن هذه الجماعة تشكل المعارضة على أي نحو من الأنحاء. لأن (خدمة) ليست حزباً سياسياً، وعناصرها وأتباعها لايمارسون السياسة بطرق مباشرة، ولايشاركون في الانتخابات تحت عناوين سياسية ينفردون بها، بل لايطرحون برنامجاً انتخابياً محدداً. ومع ذلك فإن الحكومة تتعامل اليوم مع الجماعة على أساس أنها الكيان الموازي بكل الدلالات التي ينطوي عليها هذا المصطلح. فهل هناك اضطراب وإرباك في اتخاذ الموقف السياسي والقانوني إزاء جماعة خدمة؟. وهل الحكومة تتعامل مع (حكومة سرية)؟وهل فتح الله كولن يوازي (أو يضاهي) الرئيس رجب طيب أردوغان؟. في رأي الكاتب التركي روهشان شاكر أن الحكومة أقوى من الجماعة فهي تمسك بالسلطة، وتشير خطط الرئيس رجب طيب أردوغان للتأثير في المجتمع التركي ورسم مستقبل جديد له، إلى أن الحكومة لن تنسحب من العمل الاجتماعي، ولن تترك الساحة للجماعة (جريدة »خبرترك« التركية: 2014/12/20 - نقلاً عن جريدة »الحياة« اللندنية: 2014/12/24). والواقع أن جماعة (خدمة) وإن كانت ليست حزباً سياسياَ ولا حركة من قبيل تلك الحركات التي تحمل الصفة الإسلامية، فإن لها حضوراً مؤثراً في المجتمع التركي، يفوق حسب تقديرات المراقبين المتابعين للشأن التركي، حضور حزب سياسي كامل العدة. وليس هذا الحضور ثقافياً اجتماعياً إعلامياً فحسب، ولكنه حضور متغلغل في مفاصل الدولة، من القضاء إلى الأمن إلى الجامعات إلى الإعلام إلى عالم المال والأعمال. ولكن المفكر الداعية فتح الله كولن صرح مراراً أنه لايعلم شيئاً عن العناصر المنتمية إلى جماعة (خدمة) التي تحتل مواقع نافذة في هذه الأجهزة جميعاً. وهذا مايؤكد أن الحضور الكاسح والنافذ لهذه الجماعة في المراكز الحساسة من الدولة التركية، هو (حضور عفوي) أو (حضور تلقائي) بمعنى أنه حضور بلا رأس. ولكن الحكومة التركية لاتضع في الاعتبار ذلك كله، وتتشبث بوصف الجماعة بالكيان الموازي، أي الكيان الذي يوازي كيان الدولة، بمعنى أن الجماعة تعمل تحت الأرض في نظر الحكومة، وأنها تسعى للوثوب إلى الحكم، بدون أن تعلن، أي الحكومة، عن اكتشافها لخطط تنفيذية وضعتها الجماعة لتحقيق هذا الهدف. يجمع المراقبون على أن جماعة فتح الله كولن قوة اجتماعية ذات نفوذ واسع، مما يجعلها جماعة فريدة لا مثيل لها في العالم الإسلامي كله. ولكنها عاجزة عن الرّد على الهجمات التي تشنها الحكومة عليها. ويبدو أن الحكومة التركية نجحت في جرّ جماعة كولن إلى المستنقع السياسي، خصوصاً بعد الإعلان عن مذكرة اعتقال في حق الداعية فتح الله كولن وطلب إحضاره من الولاياتالمتحدةالأمريكية. وعلى الرغم من أن موافقة الإدارة الأمريكية على تسليم كولن للحكومة التركية تنفيذاً لمذكرة اعتقال هذه، هو احتمال بعيد إن لم يكن مستحيلاً حسب رأي بعض المراقبين، إلاَّ أن المرحلة الراهنة التي تجتازها جماعة (خدمة) ستعرف تفاقماً في الأزمة مما سينعكس على الوضع العام في تركيا. سألت أحد المفكرين الأتراك من ذوي الثقافة العربية: أين الحكماء؟. وكان قصدي الحكماء من الجانبين معاً، الحكومة وجماعة (خدمة) الذين يسعون لإيقاف هذا النزيف الذي يضر بالمصلحة العليا للدولة التركية. فكان الرّد الذي أجاب به عن سؤالي: رئيس الجمهورية السابق عبدالله غول حاول أن يعالج الأزمة حينما كان في الرئاسة. ففهمت أن المسألة يتداخل فيها المزاج والطبع مع المنطق. ويبقى السؤال الذي طرحه الكاتب التركي روهشان شاكر قائماً: من يسعى لإنهاء هذه الحرب التي تتمثل في احتدام الصراع التركي التركي؟. فهل يسحب كولن جميع عناصره المندسين في أوساط الحكم. ولكن مثل هذا الانسحاب من داخل الحكومة ليس يسيراً، ويتطلب الأمر إقرار الجماعة بأنها زرعت عناصرها في مؤسسات الدولة، وهو أمر تنفيه. وتتعالى أصوات أطراف في الحكومة والجماعة كما يقول روهشان شاكر لإنهاء هذه الحرب التي جعلت كلا الطرفين ينزف. ويستخلص من متابعة الوضع المتوتر بين الحكومة وجماعة »خدمة« أن الخاسر هو الشعب التركي، وأن الرابح هم أعداء الحرية والديمقراطية والسلام الذين يتربصون الدوائر بتركيا.