اللغة ليست كياناً مستقلاً عن أبنائها والناطقين بها، بل إنها مرتبطة بهم أوثق ارتباط، فهي عنصر رئيس من مكوّنات الهوية والثقافة، لذلك تتقدم بتقدمهم وتتراجع بتراجعهم. ولا تتفاضل اللغات كثيراً من ناحية خصائصها اللسانية، بل إن علماء اللغة يساوون من هذه الناحية بين سائر اللغات، لكنها بلا شك تتفاضل من ناحية مضامينها ومحتوياتها الفكرية والأدبية والعلمية، وتعلو قيمة اللغة كلما زادت محتوياتها كماً ونوعاً، فهذه الزيادة المطّردة تحوج الناس من أهلها وغير أهلها إلى تعلم تلك اللغة، فضلاً عن أنها تشكّل تحديات وتجارب تطور اللغة نفسها وتعلمها دروساً جديدة في التقدم والتطور. وحال العربية اليوم لا يكاد يخفى على أحد، ويبدو أنها ما تزال تندب حظها كما صوّرها حافظ إبراهيم في بداية القرن العشرين حتى اليوم. لكنها غير ملومة على حالها التي آلت إليها، بل لقد قاومت وما تزال تقاوم مستندة إلى عناصر القوة فيها، تلك العناصر التاريخية التي هيأتها لأن تتجاوز تحديات ومحناً لا تكاد تتوقف. ووسط عتمة الصورة هناك إضاءات وكوى نجحت اللغة في النفاذ منها، وكشفت عن بعض إمكاناتها حينما أتيح لها ذلك في فرص قليلة مقابل العداء والإهمال من الأهل وغير الأهل. ومع إدراك كل مسوغات الحال فإن ترداد الشكوى وحده لا يكفي، والكلام على التحديات التي صار أكثرها معروفاً معلوماً لا ينفع، فنحن محتاجون إلى أن نشعل بعض الشموع أو ننتبه إلى وجودها أكثر من حاجتنا لمواصلة شتيمة الظلام. لقد حظيت اللغة العربية بما لم تحْظَ به لغة أخرى من عوامل القوة والبقاء، فهي اللغة التي وُلدت في مهد الأبجدية الأقدم في تاريخ الإنسان، وورثت بعض عناصر أمهاتها وأخواتها من لغات الشرق القديم، وهي لغة العرب قبل الإسلام، تظهر مكتملة ناضجة في الشعر الجاهلي لا يكاد ينقصها شيء. وهي بمجيء الإسلام لغة القرآن ولغة الإسلام الدين الكوني الذي نزل للناس كافة، لكن لغته الدينية والرسمية هي العربية، التي تعلمتها الشعوب الأعجمية عندما دخل الناس في دين الله أفواجاً، ثم غدت اللغة العالمية الأولى في عصر ازدهار الحضارة العربية وسيطرتها على العلم العالمي، ولا يضيرنا أن نذكّر بالمراكز التي انتشرت لتعلم العربية ولنقل محتواها العلمي إلى اللغات الأوروبية، وإلى أثر ذلك المحتوى في وجوه شتى من عوامل النهضة الأوروبية وخروج أوروبا من عصر الظلمات وعصور الانحطاط. ولقد اصطبغت بها لغات الشعوب الإسلامية فتحولت إلى الكتابة بالحرف العربي كالفارسية والعثمانية (التركية القديمة) والأوردية. ولم تتقهقر هذه اللغة رغم مرور قرون طويلة من الحكم العثماني التركي وظلت قوتها نافذة رغم التحديات والمحن الكثيرة. وتعرضت في القرن العشرين لتجارب صعبة ومحاولات مريرة كي تنحني أمام العاميات مرة وأمام اللغات الأجنبية مرات، وأمام دعاوى لتغيير كتابتها والانقطاع عن ذاكرتها، لكنها صمدت وبقيت حية، وماتت أكثر تلك الدعوات أو تحولت إلى تجارب جانبية لا تغير من جريان النهر المقدس شيئاً. إنها لغة عالمية، ما في ذلك شك، بالنظر إلى عمرها المديد وشبابها المتجدد، وإلى محتواها الحضاري المتنوع على مر العصور، فأي لغة استمرت حية مثلها؟ وأي لغة تمكنت من تثبيت بعض قوانينها وطبائعها ولم تتسامح حيال التغير مثلها؟ إننا نقرأ بهذه اللغة من امرئ القيس حتى محمود درويش مثلاً، ونقرأ بها الجاحظ كما نقرأ بها نجيب محفوظ.. ولا نجد صعوبة في ذلك، بينما يشق مثلاً على أبناء الإنجليزية اليوم أن يقرأوا «تشوسر» أو «شكسبير» بلغتهم قبل ثلاثة قرون أو أربعة. وإذا كان عدد الناطقين باللغة من أبنائها وغير أبنائها من المؤشرات المعتمدة في تصنيف اللغات، فإن اللغة العربية لغة ما يزيد على 300 مليون شخص ممن تعد العربية لغتهم الأم، وهي في المرتبة الرابعة عالمياً من ناحية عدد الناطقين بها، وربما لو توفرت إحصاءات دقيقة مبرأة من الأغراض السياسية لتجاوزت الإسبانية والإنجليزية اللتين لا تبتعدان عنها من ناحية عدد الناطقين بهما من موقع «اللغة الأم»، ولنالت المرتبة الثانية بعد الصينية بيسر ودون صعوبات. وزيادة على ذلك، فإنها اللغة الثانية للمسلمين الذين لا يمكنهم أداء عباداتهم وشعائرهم بغير العربية بصرف النظر عن مستوى إتقانهم لها، بمجموع يصل إلى 1.6 مليار مسلم (2011) وبتوقعات لارتفاع هذا العدد إلى 2.2 مليار عام 2030، أي قرابة ربع سكان الكرة الأرضية. ومن الطبيعي والمفروض أن يكون هذا العامل سبباً رئيسًا في عالمية اللغة العربية من ناحية ضرورة تعلمها واستخدامها إذا ما تذكرنا أنها اللغة الوحيدة المرتبطة ارتباطاً مقدساً بواحد من الأديان الكبرى في العالم. وليس من لغة تدانيها من هذه الناحية، ولكن من جانب آخر فإن الحرب التي تشن على الإسلام وأهله تستهدف اللغة فيما تستهدفه، لأنها إحدى جبهات الإسلام وحضارته. إنها لغة عالمية، بعدد الناطقين بها، والمحتاجين إليها من غير أبنائها، هذا إذا تجاوزنا أعداداً كبيرة تعلموها ويتعلمونها لأسباب أمنية وسياسية، ولقد زاد هذا العدد في السنوات الأخيرة وهو مرشح للزيادة في الأفق القريب. ولقد كانت هذه الخلفية سبباً في اختيارها منذ عام 1973 ضمن اللغات الرسمية للأمم المتحدة والمنظمات المتفرعة عنها والتابعة لها. ومما يمكن الإشارة إليه أن منظمة التجارة العالمية «الجات» تعتمد ثلاث لغات رسمية هي: الإنجليزية والفرنسية والإسبانية. وهناك ضغوطات ومطالبات من الأطراف العربية منذ سنوات؛ بأن تعتمد العربية ضمن اللغات الرسمية لهذه المنظمة الدولية. وآخر هذه المحاولات ما انتهى إليه وزراء التجارة العرب من الاتفاق على هذا المطلب وتقديمه في اجتماع جنيف الذي انعقد منتصف يناير عام 2011، ولكن انتهت الاجتماعات دون الموافقة على هذا المطلب فضلاً عن عرقلة حصول الجامعة العربية على مقعد بصفة مراقب دائم. وهو ما يشير إلى بعض جوانب الصراع ضد العرب والعربية في المحافل الدولية. ومن المعروف أن إدخال اللغة العربية يعني ترجمة وثائق هذه المنظمة واتفاقاتها وأدبياتها كافة إلى العربية بشكل دائم، وهو أمر حيوي سواء من ناحية تواصل الناطقين بالعربية مع أدبيات المنظمة وقراراتها أو الأثر الإيجابي الذي يزيد من فرص العربية في تفاعلها مع لغة التجارة والاقتصاد، وما يتضمنه ذلك من الاعتراف بمكانتها وعالميتها، وهو أمر نأمل أن تواصل الدول العربية المؤثرة اقتصادياً وتجارياً المطالبة به وعدم التنازل عنه. ومن ناحية بروزها على شبكة المعلومات العالمية (الإنترنت)، فرغم أن الأرقام والنسب لا تعكس قوة اللغة العربية ولا مكانتها، ورغم الإهمال الذي يحيط بها، ورغم أن القواعد والأسس التقنية التي بنيت عليها الشبكة ليست أسساً عادلة من الناحيتين التقنية واللغوية، فقد ظلت اللغة العربية تظهر ضمن لغات «الإنترنت» العالمية، وموقعها يتقدم باطراد مع كل إحصاء، ولقد ظهرت في الترتيب السابع من ناحية عدد المستخدمين لها على الشبكة العالمية متقدمة على لغات كثيرة منها الفرنسية والروسية والكورية. كما سجلت المرتبة الثامنة عشرة من حيث اللغات الخمسون الأكثر بروزاً في الترجمة. وفي إحدى النظرات الاستشرافية توقع الكاتب الإسباني «كاميلو خوسي سيلا» الحائز على نوبل عام 1989 منذ سنوات، أن اللغات القادرة على الصمود في وجه تغيرات العصر أربع لغات: الإنجليزية والإسبانية والعربية والصينية. وهي نظرة تستند إلى عاملَي الانتشار والقوة الذاتية في كلٍّ من هذه اللغات. لقد تعددت دعاوى الموت، موت اللغة العربية وانحسارها في مراحل مختلفة، ثم عاودت الظهور مع مرحلة ثورة الاتصالات والعولمة، ومعظم هذه الدعوات مصدرها الخوف الشديد المبالغ فيه من اللغة العربية عند فئة معادية للغة وللثقافة العربية، ومن فئة ثانية تخاف على اللغة فتجعل هذه الدعوى سبيلاً للصدمة لعل النائمين يستيقظون ويهبون لنجدة لغتهم. لكنها دعاوى لا نحسب أن شيئاً منها سيتحقق، لأسباب كثيرة دينية وثقافية ولغوية متعاضدة متشابكة. ولقد بدت عالمية العربية في محتواها الأدبي والفكري والإعلامي الذي أسهم في تطويرها في العصر الحديث، فقطعت شوطاً طويلاً في التطور من هذا الجانب، ومن يراجع تطور الأدب الحديث وتطور الصحافة العربية وتطور الفكر العربي الحديث سيعرف مقدار طواعية هذه اللغة ومرونتها وإمكاناتها، وكذلك سيطل على الجهد الكبير الذي بذله الأدباء والمفكرون والإعلاميون العرب، مما مكّنهم من تطويع العربية للعصر الجديد كلغة فكر وأدب وإعلام حديث متجدد. ولقد تمكن نجيب محفوظ رائد الرواية العربية، من الحصول على جائزة نوبل العالمية عام 1988، ولقد لفت هذا الفوز الانتباه للعربية الحديثة المتطورة، وعزز شيئاً من مكانتها بين اللغات العالمية. أما الجانب الذي لم يُتح للعربية أن تحقق إنجازات ملائمة فيه فهو الجانب العلمي والتقني، فلقد شهد العصر الحديث ثورة علمية وتقنية متسارعة، حاولت العربية اللحاق به ومواكبته لكن التجربة تعرضت لكثير من الانتكاس ولبست لبوساً سياسياً وتعليمياً ظل يشدها إلى الوراء ويمنعها من تجريب حظها من التطور العلمي ومن التفاعل مع العلم الحديث. ولعل قضية تعريب العلوم وتعليمها بالعربية من أبرز قضايا هذا المحور. فلقد استسلمت الجامعات العربية للتعليم باللغات الاجنبية وظلت تجارب التعريب محدودة مرتبكة. وانتقل الأمر إلى مجال البحث العلمي، إذ تبدو البحوث العلمية بالعربية نادرة وقليلة، وكذلك عدد المجلات وفرص الدعم والنشر.. كل ذلك قليل ونادر رغم أن توطين العلم يحتاج إلى استخدام اللغة الأم، ولا يمكن تحقيقه باللغات الأجنبية. ونحن حين نعرض للعربية لا نريدها أن تغدو لغة أدب وفكر فحسب، لكننا نريدها لغة متكاملة حية قادرة على استيعاب المحتويات العلمية والتقنية، فكما استوعبتها في الماضي يمكنها أن تستوعبها في الحاضر لو وجدت من يعينها ويطورها ويسمح لها بالتفاعل مع العلم الحديث ومفاهيمه وتجاربه. لكن هذا الجانب لا يمكن النهوض به من دون أن يتجه أبناء العربية من العلماء والمتخصصين في العلوم المختلفة إلى تعميق البعد العلمي في العربية تعريباً وتأليفاً وتطويراً. فنحن نحتاج إلى نهوض حركة بحث علمي بالعربية، في مجالات تكنولوجيا المعلومات وعلوم الهندسة والطب وغيرها، ومحتاجون إلى استكمال الجهود في تعريب المصطلحات، وإلى عدم الاستسلام إلى السهولة باستخدام الإنجليزية وحدها. فذلك لا يسمح بتوطين العلم ولا يمنح فرصة للإسهام العربي الحقيقي للغة العربية. لقد نجحت اللغة العربية في الماضي لأن تكون اللغة العالمية الأولى كلغة عالمية وعلمية تطلعت الشعوب الاخرى إلى تعلمها، وهي بخصائصها وقوتها قادرة على مجابهة مشكلات العصر ومشكلاتها مع أهلها والناطقين بها، فاللغات الأخرى ليست أوطاناً بديلة يمكن الاستقرار فيها، بل هي أقرب إلى المنافي التي لا بد أن تلفظ ساكنيها الغرباء، ولعل صيحة مالك حداد الكاتب الجزائري الذي كان يكتب بالفرنسية : «الفرنسية منفاي» ما تزال دالّة على هذا الجانب. نحن اليوم في مرحلة جديدة من الظلمة الحضارية، وليست مكانة اللغة إلا أحد مؤشرات هذا العصر. وما ندعو إليه من العودة إلى أوليات الأمور من ناحية استخدام اللغة العربية كلغة علم ومعرفة علمية أحد مؤشرات الخروج.