بعد قيام رئيس الحكومة بعدة مشاورات مع نقابات الموظفين وممثلي أصحاب العمل، درس الخيارات المتاحة لمعالجة الإختلالات المالية التي تشهدها منظومة التقاعد في المملكة، والتي قد تهدد قدرتها على الوفاء بالتزاماتها خلال السنوات المقبلة، في حالة غياب أي تدابير ناجعة وفاعلة. وكشفت دراسة أنجزتها المندوبية السامية للتخطيط امكانية تنامي الفجوة بين معاشات التقاعد التي يجري صرفها، وبين المساهمات المقتطعة من رواتب الموظفين لتصل إلى عجز يقدر بسنة 7.4 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي عام 2050، في مقابل تسجيل فائض يمثل 1 في المائة سنة 2005. ويملك المغرب ثلاثة أنظمة رئيسية للتقاعد، نظام موجه الى الموظفين الحكوميين وثان مخصص لموظفي المؤسسات العامة، وثالث يتعلق بأجراء القطاع الخاص، وتختلف هذه الأنظمة لجهة الحصص المقتطعة من الأجور وطريقة احتساب الراتب التقاعدي، ويؤدي هذا الاختلاف الى شكل من عدم المساواة بين المشتركين وفق القطاعات الاقتصادية التي ينتمون إليها. ومن جهة ثانية توقعت دراسة آجراها مكتب متخصص، أن يستنزف إحتياطاته المالية ليعلن إفلاسه بحلول 2021 في حالة عدم اتخاذ أي إجراءات إصلاحية. ولهذا السبب أنشئت لجنة وطنية مكلفة باصلاح أنظمة التقاعد برئاسة رئيس الحكومة، جرى تشخيص واقع صناديق التقاعد وصياغة سيناريوهات متعددة لضمان استدامتها المستقبلية من دون اتخاذ أي قرارات تترجم الإصلاح الى ممارسة على أرض الواقع، ويتابع الجميع الخطوات التي ستقوم بها الحكومة وأسلوبها في معالجة هذا الملف الشائك. وتمثل إشكالية تمويل نظام التقاعد أول عقبة أمام الاصلاح، حيث يرتبط عادة بشيخوخة السكان، كما يحدث في كثير من الدول المتقدمة حيث تنخفض نسبةا لسكان في سن العمل وتزداد نسبة المحالين الى التقاعد. لكن هذه الوضعية لاتطبق على المغرب فخلال العقود الثلاثة الأخيرة، ارتفعت نسبة السكان الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و 59 سنة من نصف مجموع السكان الى ما يقارب الثلثين 2/3 ، بينما انتقلت نسبة الأشخاص الذين تزيد أعمارهم عن 60 سنة من 6 في المائة الى 8 في المائة، وماحدث في المغرب يعزى إلى عوامل ثلاثة رئيسية، أولها أن نسبة التوظيف لاتتجاوز 45 في المائة من السكان النشيطين بسبب ضعف المشاركة الإقتصادية للنساء وارتفاع مستويات البطالة خصوصا الشباب، ثالثها أن نسبة المساهمات في أنظمة التقاعد لاتزيد عن ثلث مجموع السكان النشيطين مقارنة مع 60 في المائة في الدول وذات الدخل المتوسط، وما يفوق 80 في المائة في الدول المنتمية الى منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، ويعود هذا الضعف أساسا الى انتشار النشاطات غير النظامية التي لاتصرح بموظفيها، إضافة الى إقصاء لشرائح واسعة من المهنيين الذين يشتغلون لحسابهم الخاص من أنظمة التقاعد. أما ثاني عقبة فتتجلى في تعدد أنظمة التقاعد رغم محدودية المشتركين، مما يؤثر على إمكانية تفعيل مبدإ التوزيع التضامني بين الأجيال الذي تقوم عليه منظومة التقاعد في المغرب، بيد أن أعداد المستفيدين من رواتب التقاعد في صفوف الموظفين العموميين والعاملين في المؤسسات العامة ارتفعت بشكل كبير في السنوات الماضية مقارنة بوتيرة تزايد أفواج الموظفين الجدد. وتؤكد المعطيات الحاجة الملحة إلى مقاربة نوعية شاملة لمعالجة الإختلالات التي تعرفها منظومة التقاعد في المغرب تقوم على تعزيز المشاركة الاقتصادية للنساء التي لاتتجاوز 25 في المائة ، ورفع وثيرة الإستثمار المنتج الكفيل بتوفير فرص توظيف العاطلين وتوسيع قاعدة المشاركين في نظام التقاعد، وضمان حد أدنى معقول من المعاش التقاعدي للجميع عن طريق نظام أساسي إجباري موحد يقوم على التضامن ويمول من الإيرادات الضريبية ويشمل كل فئات المجتمع. وعلى غرار تجارب بعض البلدان، فإن النظام الأساسي يمكن أن يعزز بنظام إجباري تكميلي يأخذ في الاعتبار الخصوصيات القطاعية والمهنية، ونظام تكميلي إختياري وفق رغبة كل فرد وإمكاناته، بيد أن الإقتصار على البدائل التي ترتكز على رفع سن التقاعد المحدد حاليا في 60 سنة، والذي تنوي الحكومة رفعه الى 65 سنة، ورفع نسب الإقتطاعات من رواتب الموظفين لغاية التقاعد، وتغيير الأساس الذي يعتمد في حساب الراتب التقاعدي إضافة الى عدم شعبيتها بسبب تحميلها كلفة الإصلاح لفئات محدودة غالبيتها تنتمي إلى شرائح الدخل المتوسط والضعيف. لن يكون كافيا لتحقيق توازن مالي مستدام لمنظومة التقاعد. فهل ستبقى الحكومة حبيسة مقاربة تقنية صرفة في إطار منظومة التقاعد كما هي اليوم بنقائصها وتشوهاتها؟ أم أنها تسير في قدرتها على إبتكار سياسات إجتماعية بديلة تتبنى مقاربة شمولية لمنظومة الحماية الإجتماعية في المغرب تؤسس لعقد إجتماعي جديد مبني على إحقاق الحقوق الاقتصادية والإجتماعية لجميع فئات المجتمع أم أنها ستختار الحل الأسهل والمثمتل في رفع نسبة الاقتطاعات وزيادة في سنة التقاعد إلى 65 سنة لتجنب إفلاس صناديق التقاعد بشكل كامل.