قبل عقدين أو يزيد، دُعيت لتثميل وكالة المغرب العربي للأنباء في أحد المجامع الثقافية بأصيلا. ولما أنهيت مداخلتي المرتجلة ضمن المحور المتعلق بالإعلام الجهوي، التفت صوبي وزير الثقافة آنذاك، محمد بنعيسى، ليسألني بفضول ينم عن نزعة جهوية صارخة: من أية مدينة أنت؟ ولما أجبته: "من تاونات" أدار وجهه على التو، ولم يتوجه لي بكلمة أثناء إقامته القصيرة في المدينة.. إن لم تُثر السخرية، فتاونات تبقى سُبّة على لسان الحُضّر المنحدرين من مدن بلاطية أو عصرية، مع أن المدينة كانت قلعة نضالية استعصت على الاستعمار الذي اكتشف أن جوفها زاخر بمنجم الكيف، فلم يلبث أن حوّلها إلى رئة اقتصادية هامة تدر على سكان المنطقة ما يكفي لتجنب مآسي الهجرة.. كان مزارعو المدينة يمدّون الجارة فاس بأطنان من سنابل الكيف وبكميات هائلة من الزيوت والكرموس والبرقوق والموز، قبل أن يقتلعهم المستعمر من حقولهم ليرسلهم إلى مواقع الحدود مع ألمانيا النازية كي يحاربوا من أجل أن تحيى فرنسا كريمة مستقلة.. بُنيت الفيلات والملاعب والملاهي والمؤسسات الجامعية والمستشفيات بفاس، وظلت تاونات كما هي بوجهها القروي وبأهاليها الفطريين..جلباب قصير المنكب إلى حد الركبتين، ورزة عريضة تقيهم من البرد والحر ويُلفّون فيها بعض ما لديهم من وثائق ونقود..كبُر جيل ما بعد الاستقلال، فتعلم أول ما تعلم من هذه الفطرية كيف يلبس الكوستيم والجلابة الفاسية، وكيف يحتسي قريعات من البيرّة أو يغازل حسناوات فاسيات أو حتى يُعلّق في ليلة ماجنة نصف دخله من الكيف للشيخات! هكذا حال مدن ومناطق مغربية كُتب عليها أن تظل قروية إلى الأبد، وعلى أهاليها أن يُصنّفوا ضمن أبخس الفئات وأكثرها تهميشا..فئات بلا حاضرة وهي في قلب حواضرها، وبلا قيمة اجتماعية بعد أن ضاعت منها بفعل التمييز الإقليمي وانتكاسات التاريخ.. لم يمض أكثر من أسبوع على حكايتي "التاوناتية" مع السيد بنعيسى، حتى فوجئت بالدكتور عز الدين العراقي، آنذاك وزير أول، في قمة الاعتزاز، أثناء لقاء حول "فاس.. تراث إنساني عالمي" بالانتساب إلى مدينة فاس يتفاخر بهذا الانتساب ويفاخر به مازحا أهل مراكش والرباط وتطوان ومدن أخرى..وقد ختم مداخلته بفرنسية بليغة : ''Etre fassi est une culture'' (أن يكون المرء فاسيا، فهذا ثقافة).. دوّنتُ المقولة، وتعمدتُ عدم إدراجها ضمن التقرير الإعلامي الذي حررتُه لحساب وكالة المغرب العربي للأنباء.. وما هي إلا أسابيع حتى دعاني السيد عبد الجليل فنجيرو، المدير العام للوكالة إلى مكتبه (دجنبر 1990) ليطلب مني الإنابة عنه في برنامج "رجل الساعة" التي كانت تُعدّه باحترافية عالية، الصحفية فاطمة الوكيلي. كان ضيف البرنامج هو رجل الدولة والسياسي المحنك، الراحل عبد الهادي بوطالب. وقد شاركت فيه إلى جانب الصحفيين، عبد اللطيف جبرو عن جريدة "الاتحاد الاشتراكي" ومصطفى اليزناسني، مدير جريدتي "المغرب" و"الميثاق الوطني" آنذاك. ولأن الحلقة صادفت أحداث فاس الدموية خلال الإضراب العام الذي دعت إليه كل من الكونفدرالية الديمقراطية للشغل والاتحاد العام للشغالين بالمغرب، فإن موضوع فاس أخذ حصة الأسد، وكان نصيبي في هذه الحصة أن ذكّرت الأستاذ بوطالب بمقولة الوزير الأول "Etre Fassi est une culture"، وسألته عما إذا كانت هذه المقولة هي ترجمة دبلوماسية لمقولة أقوى منها "إقليمية" إن لم أقل "عنصرية"، ويحلو لأهل فاس ترديدها في غير ما مناسبة :"من بعد فاس ما بقاو ناس".. وبينما الأستاذ بوطالب، وقد بدا عليه الحرج، يحاول إفراغ المقولة من كل حمولة عنصرية، التفتُُّ يمينا أسترق نظرات على الحضور، وكان اندهاشي قويا حينما رأيت في الصف الأمامي "صديقي" السيد بنعيسى، صاحب النظرة الدونية للقروي (أنا) ابن تاونات، وقد رسم على محياه ابتسامة عريضة، وكأنه ينتشي بالحرج الذي تسبب فيه السؤال للأستاذ بوطالب. لا أتوخى من هذه الحكاية أية مؤاخذة أو تحامل لا على المنتشين بتمدّنهم المفرط، ولا على الغارقين في قرويتهم الزائدة، ما دمت مقتنعا بأن منزلة الآدميين كانت وستظل في المغرب كما في مصر، وكما في فرنسا وفي مختلف بقاع العالم، تُقاس بالنّسب وبالعشيرة والمدينة.. فتاونات تبقى حاضرة قروية مهما حاول أهاليها الانصهار إلى حد الذوبان في المدن البلاطية أو العصرية..والانتماء إلى فاس أو باريس أو القاهرة، هو، كما شرح الأستاذ بوطالب باقتدار، انتماء لروح الحضارات والثقافات التي تعاقبت على هذه المدن فأفرزت كمّا هائلا من العطاء المتنوع والبذل المتجدد ينهل منه الناس من مختلف الأجناس. غير أنه من المؤسف جدا أن يغيب عن بعض النخب المغربية، وعن بعض وسائل الإعلام المكرسة لهذا التمييز في الهوية والانتماء، أن الهوية الترابية قيمة اجتماعية وثقافية مضافة، وأن التاوناتي أو الريفي قد يتأثران بأفكار علال الفاسي وعبد الكريم غلاب، دون أن يتخليا عن الفقيه المقري وعبد الله الصنهاجي..، وقد يعجبان بتراث فاس وحضارة فاس دون أن يتنكرا للتربة التي ترعرعا في أحضانها.. لقد أصبح البدوي الأمي مواطنا وإنسانا متعلّما، رضع حليب الثقافة الفاسية والتطوانية والرباطية بالتأكيد، لكنه أدرك نسبيتها ضمن نسيج الثقافات الإنسانية، وعرف ما يأخذ منها وما يترك.