حديث العشق لا نستطيع أن نعبر عنه باللسان حافظ الشيرازي من "ملائكة في مصحات الجحيم" إلى "خبط طير" إلى "المتلعثم بالنبيذ" إلى "عبثا كم أريد.." ، هي الرحلة في سماء الصورة التي على سعة لا محدودة وعلى بهاء لا يوصف وعلى عمق لا يسبر ، فكيف بالأصل منبع الصورة وروح الصورة. هي الرحلة بين الاخضرار في الأرض والازرقاق في السماء، وفيهما وبينهما قد يتجلى ما خلف الاخضرار وما خلف الازرقاق ذات حدس بارق وذات شفوف أبيض. هي الرحلة في مدن تتلألأ نغمات وأساطير وأجنحة، إلا أنها مدن مختلفة، هي الرحلة في مقامات السماء وكم فيها من طيور غريبة تخبط بأجنحة زرق من سديم إلى سديم. هي الرحلة في برازخ الأرض، وكم فيها من منابع غامضة ومن أشجار بدون جذور لا معالم ولا أنصاب فيها كما لا معالم ولا أنصاب في المقامات ، فالتيه قدر من يسافر والحيرة نصيب من يتيه وهذا هو الذي كان ويكون قدر الشاعر الذي يرحل. وكان شاعرنا في كل برزخ ينزل فيه يبدأ فرخا في العش بلا ريش ثم إلى تحليق قرب الشجرة، إلى تحليق في سماء، إلى سماوات ودائما هو الطائر الذي يخبط مرئيا وغير مرئي تقرأه في سقسقته ولا تقرأه مختفيا فيه، متلفعا بلباس مزركش كقناع يخفيه، ولذا كنت في كل مرة أسأل أين هو الشاعر في القصيدة؟ للقصيدة باب موصدة لا يكفي الطرق عليها لابد من المفتاح لكي أدخل . ولأني لم أعثر على المفتاح رغم أنه كان قريبا من نظري اكتفيت في انتظار العثور عليه بالتلصص من خصاص الباب فأطللت وما زلت فرأيته وأراه في المختبر أو المرسم. هو هناك يرسم اللون في اللون، ينطق بالصوت في الصوت، ينبس بالموسيقى في الموسيقى، وكأني لست أمام واحد أو مع قصيدة واحدة أثناء الكتابة أو الرسم. هو هكذا لا يستقبل الكلمة كما تريد ولكن كما يريد، فتكون له وكأنه واضعها وكأنه مصورها، هو يبدأ من الطين والماء يخزفهما، يصنع منهما الكأس أو الإبريق أو الجمجمة ثم ينفخ فيهما بعد ذلك في الأعضاء من عنده بعد أن يرسم الجسد. وهو في الرسم فيما يبدو لي من خصاص الباب لا يرسم الصورة وإنما يرسم الصور في الصورة، فدائما أو تقريبا الصورة في قصيدته جماعية وليست فردية. ولذا يصعب قليلا أو كثيرا على القارئ مثلي فرز الصورة الأساس من الصورة المحيطة بالأساس. وهذا المأخذ أكيد أنه قدرة على تكثيف الخفيف وعلى تكثير القليل وعلى تمديد الظل ، فيزداد الجمال في الجمال. ولكن مع المأخذ هذا يحتاج القارئ إلى صبر ينفذ إلى الصعب وإلى مماثلة في القدرة مع الذي يرسم. وأيا كان فللشاعر الخابط مسار شعري يمشي فيه وحده، فأنت إذا عثرت على قصيدته في كتاب أو مجلة غير ممهورة باسمه، فإنك ستعرف صاحبها فالحرف حرفه والشطحات شطحاته واللعب مع اللغة لعبه. وكما رأيته من خصاص الباب يعجن الطين وينفخ الروح في الأعضاء ويرسم الصورة ، رأيته كيف يمهر في نحت الكلمات أو الأعضاء ، كيف يصهرها، فإذا بحجارة وردة وإذا بحديد ماء ، ففي مختبره يذيب ويركب ويخلق خلائق ، قد تكون أحيانا من الصلب كما تكون أحيانا من الحرير فلنستمع إليه قليلا: ويا لهُ ليلٌ أمرُّ بديماسِهِ الكوكبيِّ كأنِّي الفريسةُ مطعونةٌ بالذي يترمّشُ من أرمُحٍ فلنتأمل قليلا في كلمات المقطع وخاصة في كلمة يترمش من أرمح ولنقرأ هذا العنوان لقصيدة " المُتَمَرْوِدُ حَتَّى غَسَقِ المُقْلَتَيْنْ": أتمْروَدُ بالكُحلِ حتى إذا غسقتْ مقلتايَ ولنقرأ هذا المقطع: وأنا ولدٌ نزِقٌ عشِقٌ وأفارِكُ في كفِّها العطْرَ كالغُصنِ في مَجْمَرٍ كمْ دُخانُهُ طلْقاً بدونِ هواءْ وكما وقفنا من قبل على كلمة أتمرود ، نقف هنا على أفارك، وفي كل هذا هو المتلعثم بالنشيد: كمْ سوفَ يلزمُني وتراً كيْ أفكَّ الحجارَةَ منْ صَفَدِ أو من جَسَدي وهذا شأن شاعر يريد أكثر مما تريد الكلمة وأكثر مما يريد له الجناح، وفي كل هذا وأكثر ، هو الطائر الذي يخبط ويسأل ولكن ليس عبثا فوراء الأكمة ما وراءها.. أيها الإخوة لم أجد المفتاح ، ولكن من خصاص الباب رأيت شاعرنا في مختبره السحري يصنع من لا شيء أشياء جميلة نعم رأيته يصنع وما رأيته ينفخ الروح وقد أقول في تلعثم: إني رأيت قليلا أنفاسها، رأيت قليلا أشواقها، رأيت قليلا دموعها، وهي تظهر وتخفى في موسيقى القصيدة ولربما تقول في كل قصيدة، تقول ما قاله الشاعر السويدي توماس: علينا أن نعيش مع هذا العشب المشذب ومع ضحك السراديب ألقيت هذه الكلمة في حفل توقيع ديوان " عبثا كم أريد.." الصادر هذه السنة عن دار توبقال بالدار البيضاء، للشاعر محمد بشكار، نظمه فرع اتحاد كتاب المغرب بشفشاون يوم الجمعة 31 ماي 2013 .