لقد بصمت المسألة الدستورية تاريخ المغرب المعاصر، فمنذ مشروع دستور 1908، والمجال السياسي المغربي وخاصة ما بعد الاستقلال السياسي، يبحث عن إطار دستوري لتنظيم السلط في الدولة الجديدة، ورسم الحدود بين مختلف القوى السياسية، وذلك عبر التقنية الدستورية والتي تم توظيفها بأقصى درجات الدهاء، في فترة تميزت بصراعات حول نموذج الدولة الناشئة بعد رحيل الاستعمار، ومنذ 1962 تاريخ إصدار أول دستور، شكلت آلية التأويل، واحدة من أبرز الآليات التي تم توظيفها في التجاذبات التي عرفتها الساحة السياسية الوطنية، واستمر الوضع بنفس الأسلوب وبنفس القوة إلى حين إصدار دستور 2011 في سياق مختلف تماما عن كل السياقات التي أنتجت النصوص الدستورية السابقة، واستمر التأويل مجالا للصراعات الخفية والظاهرة، وصورة تعكس نضج الفاعلين وإرادتهم في دفع الدستوري للديمقراطية إلى الأمام. إن الدستور وثيقة تعاقدية، ورغم اتسامها بالسمو، فهي تبقى وثيقة جامدة تستمد حيويتها من الممارسة و التفعيل و لا ترتقي جودتها، مهما علت عند التحضير و الصياغة، إلا بارتقاء الفاعل السياسي وحيويته، حيث أن غياب القدرة عند الفاعل السياسي على الانسجام مع الوثيقة الدستورية و التفاعل الجريء معها، يجعله عاجزا عن تنزيل مقتضياتها و عن تفعيلها. وقد جاء دستور 2011 ، الذي صيغ في ظروف وطنية، إقليمية و دولية ضاغطة ، رغم نواقصه، بتعديلات جوهرية أساسية .و لكن عيبه أنه اتسم ربما،بنضج أكبر من نضج بعض الفاعلين السياسيين، اللذين تجاوزتهم الوثيقة الدستورية التي اعتادوها آلية للصراع بين المؤسسات، متناسين أن الأصل فيها أنها آلية ديمقراطية، فلم ترقى ممارستهم السياسية إلى أعراف سليمة، جريئة و متجردة، تعفي الوثيقة الدستورية من التفصيل في الصياغة و الضبط في البنود. ذلك ما أفرزه الفعل السياسي لحزب الاستقلال، الذي مكنه وعيه بمقاصد دستور 2011 ، من أن يتحرر من قيود الدساتير السابقة و أن ينصهر في مضامين الوثيقة الدستورية الجديدة ليباشر دوره كمؤسسة مستقلة. و قد كانت مبادرته القاضية بالانسحاب من الحكومة، قرارا سياسيا مستقلا و مسؤولا، شكل حالة لإغناء الممارسة السياسية في ظل الدستور الجديد و تقديم نموذج لممارسة حية، فتحت آفاقا سياسية غير مؤطرة دستوريا. فلما كان دستور 2011، لا يتناول عنصر الآجال اللازمة لتكوين الحكومة و لا يتناول حالة تفكك الأغلبية الحاكمة ، فإن الأمر سهل لجوء رئاسة الحكومة لسلوك المماطلة السياسية والتعنت المعطٍل للمؤسسات الدستورية ، دون تحمل الكلفة و المسؤولية السياسية لذلك، فهوى الدستور من سموه إلى دنو التأويل النابع من منطلق المصالح الذاتية و الحسابات الضيقة . و عاش المغرب و المغاربة فترة غير يسيرة، احتباسا سياسيا خانقا و انتظارية مكلفة يتم تأويلها هي الاخرى لتسمى استقرارا، لا يجد فصيل يظن عبثا أنه صاحب الفضل فيه ، حرجا في أن يمن به على الشعب و على الوطن. إن حزب الإستقلال الذي يرجع له الفضل في الدفع الى هذا الحراك الدستوري والذي أبان عن ثغرة دستورية ساء استغلالها، و نبه الى ثغرات أخرى ، قد يدفع معها حراك سياسي آخر إلى احتباس سياسي أكبر و اخطر، كحالة التساوي في الأصوات عند انتخابات برلمانية ما، مايلزم بالتحلي بالانسجام في المواقف و المبادرات و عليه وجوبا أن يتقدم و على ضوء تعدد أشكال التعاطي مع الحالة الواحدة و في إطار ما يسمح به الدستور، أن يبادر إلى المطالبة بتعديل دستوري ، يفضي الى دستور مدقق مفصل واضح يعفي من التأويل و يضمن انسيابية في الفعل السياسي . والله اعلم