شهدت نهاية الأسبوع الفارط حرب بلاغات غير مسبوقة ، بين الرباط و الجزائر تعكس واقع البلوكاج الذي يتوج أشهرا من التراشق الإعلامي ، و يعيد مسار العلاقات الثنائية الذي شهد إنتعاشا ظرفيا خلال السنتين الأخيرتين الى نقطة البداية . المغرب عبر مساء السبت الماضي عن أسفه الشديد لكون الجزائر تتغاضى عن الحقائق الموضوعية من أجل تبرير رغبتها الواضحة في الإبقاء بشكل مصطنع على الوضع القائم المؤسف في إشارة ضمنية الى واقع الحرب الديبلوماسية الباردة بين البلدين و التي أسهمت تصريحات عدوانية مسترسلة صادرة عن مسؤولين جزائريين في الآونة الأخيرة في تأجيج نيرانها . و مثلما كان متوقعا لم يتأخر الرد الجزائري على البيان العنيف الذي أصدرته وزارة الشؤون الخارجية المغربية الجمعة الماضي و ضمنته لغة تنديد غير مسبوقة بالشروط التي وضعتها الجزائر لفتح الحدود البرية الموصدة في وجه شعوب البلدين الجارين منذ صيف 94 بقرار أحادي الجانب . الجزائر في شخص الناطق الرسمي باسم خارجيتها اتهمت الرباط بخرق "تفاهمات" تمت بين البلدين بشأن كيفيات التطبيع التدريجي للعلاقات الثنائية، ومعالجة النقاط الخلافية بين البلدين في إشارة الى الاجتماع الذي جمع مسؤولين ديبلوماسيين من البلدين شهر فبراير الماضي بالعاصمة الجزائرية و توج بالاتفاق على اعتماد مقاربة براغماتية وتدريجية وطموحة لإعطاء دينامية جديدة للعلاقات الثنائية. البلاغ الثاني لوزارة الشؤون الخارجية والتعاون السبت الماضي ذكر بالحرف أن المغرب يسجل أن رد الفعل الصادر عن الناطق باسم وزارة الشؤون الخارجية الجزائرية تجاهل الإشارة إلى السبب الرئيسي الذي كان وراء التوضيح المغربي الأخير، والمتمثل في رفض مبدأ وضع شروط أحادية الجانب لفتح الحدود البرية بين البلدين ، مؤكدا أن قواعد حسن الجوار وضرورة التعاون وحق المواطنين في التنقل تعد قيما دولية لا يمكن تقييدها بشروط، والأكثر من ذلك بادعاءات سياسية غير مبررة. بيان الحكومة الجزائرية الثاني من نوعه في ظرف أسبوع بعد بلاغ الشروط التعجيزية الثلاثة إتهم المغرب بعدم التعاون في مجال مكافحة المخدرات، وأكد إتهامات مدلسي لحدود المملكة بكونها مصدرا مقصودا للمخدرات الموجهة لجارها الشرقي. الخارجية المغربية ردت على هذه النقطة بكون الأمر نفسه يسري على ما يسمي ب"تنامي التهريب" الذي ينبغي أن يكون مجالا لتعاون مثمر بين سلطات البلدين، بدلا من تحويله إلى شرط مسبق، معتبرا أنه إذا كان هناك من شعور بالاستياء بخصوص هاتين النقطتين فإنه شعور مشترك ، على اعتبار أنهما يهمان ظواهر تتم أيضا انطلاق من التراب الجزائري في إشارة الى إغراق المغرب بالقرقوبي و الأقراص المهلوسة و الأدوية الفاسدة . بصيغة التحدي و محاولة فرض سياسة الأمر الواقع جدد تصريح عمار بلاني الذي و للغرابة لم ينشر في وكالة الأنباء الجزائرية الى غاية منتصف نهار السبت أن الجزائر متمسكة بنفس الموقف الذي أعلنت عنه منذ البداية، في ما يتصل بمسألة الصحراء باعتبارها قضية تصفية للاستعمار تقع على عاتق الأممالمتحدة، مما يعني أن النظام الجزائري يتوهم أن المغرب وافق و بدون تحفظ على تسوية سياسية ثنائية تعبد الطريق للتطبيع المتدرج للعلاقات الثنائية في مقابل إبقاء نزاع الصحراء في إطاره الأممي و عدم التصدي لأي خطوة عدوانية للجزائر من شأنها المس بالسيادة الترابية للمملكة على أقاليم المملكة المسترجعة . رد الخارجية المغربية على التحدي تأسس على كون المصطلحات المستعملة والمنطق المعتمد إزاء النزاع الإقليمي حول الصحراء المغربية من طرف الجزائر تحمل دلالات أكبر ، على اعتبار أن القبول بفصل العلاقات الثنائية عن تطور ملف الصحراء المغربية لم يكن يعني قط بالنسبة للمغرب موافقة على الموقف الجزائري، ولا التغاضي عن عناصر موضوعية في هذا النزاع الإقليمي و هذا ما يعني أن الرباط ترفض توهم الجزائريين أن المغاربة منحوها مقابل التطبيع حق ترديد أسطوانتها المشروخة و المستفزة حول حقوق المملكة ووحدتها الترابية . بيان الخارجية المغربية ركز على مسألة الصحراء و ذكر على أنه بالنسبة لمجموع الشعب المغربي، وكافة مكوناته الحية، فإن الجزائر تعد، بكل تأكيد، طرفا في هذا النزاع المفتعل، موضحا أن مسؤوليتها التاريخية والراهنة ، وانخراطها الدبلوماسي وتعبئتها السياسية والمؤسساتية ومسؤوليتها الإنسانية تبقى جلية تماما بهذا الخصوص.و شدد على أن المنتظم الدولي كان دوما شاهدا على ذلك ، كما أن مختلف تقارير الأمين العام للأمم المتحدة تبرزه بشكل صريح ، وهو ما أكده القرار الأخير لمجلس الأمن بوضوح أكبر . وأشار إلى أن الفصل المتفق عليه في مسار التطبيع الثنائي يعني أنه بإمكان كل طرف أن يدافع بحرية عن موقفه بشأن هذا الملف، مع العمل بموازاة مع ذلك في اتجاه تطبيع علاقات الجوار، مؤكدا على أن قضية الصحراء المغربية هي قضية وطنية جوهرية، يتشبث بها بشكل تام الشعب المغربي قاطبة، بكل حساسياته وفئاته. الفصل الجديد و المتكرر من فصول التصعيد الرسمي بين البلدين بعد جولات من التراشق الاعلامي يعكس الى حد بعيد ما كشفنا عنه في عدد نهاية الأسبوع من وجود أجنحة متصارعة بهرم سلطة القرار الجزائري فيما يتصل بتدبير ملف القضايا الخلافية مع المغرب كما أنه يعكس الحساسية المطلقة للنظام الجزائري من خطوة حزب الاستقلال المطالبة بحتمية فتح ملف ثغور الصحراء الشرقية في ضوء الحقوق التاريخية للمملكة في أراضي أغتصبت منها في عهد الحماية الفرنسية و تم إلحاقها غصبا بالجزائر و التي شكلت فقرة دالة في ردة الفعل الأخيرة للمسؤول السامي بالخارجية الجزائرية الذي شخص ما تزعم الجزائر بأنه تصعيد و إستمرار لحملة التشويه التي يقودها المغرب ضد الجار في " تهديدات تلوح ضد السلامة الإقليمية للجزائر، من بعض السياسيين، ممن يشكلون جزءا من الائتلاف الحكومي " و التي ربما ساهم تراخي و تساهل وزير خارجية المملكة في حسمها في حينها قبل أسابيع بقلب الرباط في نمو جشع و أطماع النظام الجزائري على الخطو خطوات أكثر جرأة في رفع سقف المطالب الابتزازية و المذلة للحكومة الجزائرية في وجه مؤسسات المملكة .. حالة البلوكاج الجديدة في مسار العلاقات الثنائية بين البلدين الجارين التي لا تتململ قليلا إلى الأمام حتى تبرز سلوكات و مواقف تكبح و توقف تقدمها يعكس بوضوح أن صقور النظام الجزائري يتحينون أي فرصة مواتية لاستغلال أي ثغرة أو تردد في الموقف الرسمي المغربي لابداع المزيد من شروط الاذعان و الاذلال المقصود من موقع الهيمنة و التعالي . و التجارب بينت أن المنطق المؤسس لسلوك الابتزازالمترسخ في العقلية التحكمية للجزائر الرسمية بأقنعة و مساحيق متجددة سيتكرر حتما في المدى المنظور مكرسا البون الشاسع ما بين مطالب الجزائر و شروطها التعجيزية و رفض الرباط للاملاءات و سياسة الاذعان و الابتزاز المقصود . سيستمر حتما شرخ اللاتفاهم بين الحكومتين في التوسع و سيعود الى درجة التصعيد القصوى التي واكبت أحداث أطلس أسني قبل قرابة العقدين حيث لا يبدو في الأفق أي مؤشر من شأنه منح ولو بصيص أمل ضئيل يدفع الى التفاؤل طالما أن أطرافا نافذة في قصر المرادية آلت على نفسها نسف كل مساعي التهدئة و ستنزل حتما بكل ثقلها لاجهاض أي خيط من شأنه دفع الساسة الجزائريين الى مقاربة بملف العلاقات مع المملكة بموضوعية ونبذ تركة مخلفات الحرب الباردة التي شكلت و بلورت شكل التعامل الجزائري الرسمي مع الجار المغربي المبني على مسعى الاستنزاف الطويل و الاذلال المتكرر و الاستعلاء و الهيمنة الفارغين . فهل تكون ديبلوماسيتنا في مستوى مواجهة و التصدي لهذا النسق التآمري المبني على قناعة أن الطبع يغلب التطبع ؟ ذلك هو المطلوب منها بعيدا عن سلوك المرونة و التساهل المبالغين الذين قد يؤديان في غفلة و بدون قصد الى نوع من الانبطاح المجاني الذي يخدم مصالح و أجندة أعداء المصالح العليا للوطن