ثمة في تاريخ البشر، منذ البدء ،الكثير من النّسيان،نسيان الممكن في مقابل الكائن، نقصد ثني الحقيقة وطيّها، باعتبارها عين الشيء، أو النُّور الذي يُنير الوجود. لقد زجّ الثنيُ،كما قال هايدجر، بالفكر البشري، منذ اللّحظات الأولى في الدّرس الفلسفي اليوناني، في أتون النّسيان، نسيان الوجود نعني،وفي هكذا نسيان تكمن المصالح الخاصة. تولّد عن هذا الأمر،مشروع ثقافي كوني همه الأوحد،هو تفسير وتبرير المعطى السوسيو- ثقافي القائم،بغاية إقرار الواقع وإثباته من خلل وضع الكائن في مواجهة الممكن.يُمكنك أن تلحظ باستمرار ذاك التصدي الوحشي،من قبل العسكر الذي يحرس الجدار العالي للمُعطى،المٌلبّد بالقُدسي،لكلّ نبش أو محاولة فهم وتأويل يفضح السائد،ويُعرّي الوجود. من المؤكد أن في التأويل وتوليد المعنى،الكثير من الألم،ألم الانفصال عن الأصل بتعبير هيجل،ومن المؤكد، أيضا وعطفا،أنه السبيل،بله المنهج القويم لبسط الثني dipliment.بسط الثني بهذا المعنى ، كما يقول هايدجر،هو انكشاف ، والانكشاف ليس سوى ظهور الوجود.الأصل كان،وما زال قاس بسلطته، وبطهرانيته،وبأحقيته المطلقة،وكل محاولة للانفصال عنه،تُحدث جُرحا غائرا.إنّ الكثير من المحاولات في الفهم الانفصالي/المؤلم،كان مآلُها النسيان. ومن نافل القول،إنّ الفن والأدب،باعتبارهما تجلّ من تجلّيات إدراك فهم الوجود،أُصيبا منذ القدم بعدوى الأصل،درءا لكلّ خطر يتهدّدُ الوضع السّوسيو ثقافي القائم،للتّدقيق قل، خوفا على المصالح الخاصة،وكل شذوذ أوانحراف عن هكذا مسعى، يكون مصيرُه النّسيان. في الأدب العربي،وفي الشّعر تحديدا،هناك الكثير من النّسيان والتجاهل والكبت،فقط لأنّ وضع القصيدة ،حُدّد سلفا،ليس من شك في العصر الجاهلي،ولأنّ اللُّغة العربيّة تهندمت،بُعيد ذلك بقليل،بلُغة الوحي.ولئن كان نسيان الثّني،فعلا ممنهجا،قامت به الشّعرية المُؤسسة(بكسر السين الأولى)،باعتبارها سلطة،خضعت للمؤسّسة الثّقافية الرّسمية،التي كان لها دور رئيس في رسم خارطة طريق الشّعرية العربية،فإنّه ليس من شك كذلك أنّ هذه الرُّؤية ستُغذّي وتُقوّي أُصولية شعرية،كانت ولاتزال إلى يومنا هذا،قدر الأمّة العربية. ممّا سلف،نمتشقٌ استنتاجا صادما،مفاده أنّ أصل البويطيقا العربية،تأسّست على التّصدّي الفادح لبسط الثّني وطمره، بمعنى آخر،إنّ حضورها ارتهن بنسيان الآخر الشّعري الخارج عن منطق الإجماع، والمتمرد على كلّ أُصولية شعرية، جعلت من الدُّوكسا الشّعري،كميتافيزيقا،في مواجهة جمالية الخرق والمخالفة. الذّائقة العربية،لم تكن البتة،في معزل عن هذا الشرط الفنّي المُستبد.فلما كانت الشعرية العربية شعريةإجماع،فإنّ جمهور الشعر ظلّ يمُجُّ كلّ ما هو شاذّ أو منحرف عن السّياق،لأنّ العقلية العربية،كانت ولا تزال،كما تبين،لا تطمئنُّ سوى للإجماع، إلاّ فيما ندر. هكذا هي عقلية القطيع، عقلية تصاب بالرُّهاب والفزع كلّما باغتها الطّارئ،لتتحصن ضده بالانكماش والتكتُّل. وحتى الفعالية النقدية التي تعتبر قراءة نوعية ونموذجية،في حوزتها القدرة على التّشوُّف إلى ما هو أبعد من الحدود التي رست عندها الشعرية العربية،ظلّت بدورها وفية لهذه القاعدة،مع بعض الاستثناءات. ولأنّ الأُصولية النقدية العربية،كانت تابعة لعقلية الإجماع،فقد تمّ القبُول ببعض التجارب الشعرية المعتبرة والمائزة،في مملكة الشعر،على مضض،في حين زُجّ بأُخرى،جديرة بالرّعاية،في المهب.ألم يعتبر النُّقّاد شعر أبي تمام نوعا من الكساد الشعري؟ألم يُتّهم أبو نواس بالشُّعوبية والتّآمر على المنظومة الخُلقية العربية؟حدث هذا،فقط لأنّهما خرجا عن الإجماع،وتمرّدا على النظام الشعري المعطى. إنها رُؤية شعرية رجعية للغاية،رؤية جعلت من نظام القصيدة الجاهلية،محدّدا(بكسر الدال الأولى) أبديا للشّعرية. منذ تلك اللّحظة، تحوّل هذا النّظام إلى ما يمكن تسميته،كما سلف، بالدُّوكسا الشّعري والذي كان العلّة في هذه الفداحة اليوم. وإذن،ثمة في الشعرية العربية،الكثير من الانسداد،والكثير من الأسيجة والمتاريس،نقصد المعايير.الأمر هذا جعل جمهور الشعر العربي،يصاب منذ القدم بفوبيا التغاير،فالمختلف محدث،وكل محدث بدعة،وكل بدعة ضلالة.فما أحوجنا اليوم إلى تحرير حقيقي للمكبوت في شعرنا العربي،لأنّ في ذلك إظهارا للثني وبسطا له، والذي لن يتم تحريره إلا من خلل عملية الانكشاف،بما هي بسط للثني. فلا مراء في أن علة النسيان عند الأصولية الشعرية، تتجلى في اختلاف المنسي ومغايرته.مضمون هذا الكلام،أن الاختلاف اغتراب ومنفى،وأمّا التماثل والمطابقة،فهو الجدير و الأحقّ، لقدرته على المحاكاة. مصير الشعر الصوفي مثلا،لم يكن ليخرج عن هذا التفكير،إن شئتم التكفير،فقط لأن الصوفي يرى في الإنسان قدرة كبيرة على الخلق والإبداع،انطلاقا من مقولة(وحدة الوجود)، وعطفا لأن النص الصوفي خلق شعرية جديدة في معزل عن الشعر الموزون يقول أدونيس. (الصديق أنت إلا أنه بالشخص غيرك)، كتب هذا أبو حيان التوحيدي منذ زمن طويل،متمردا على منطق الشبيه وإمبريالية النموذج.فالاختلاف،بهكذا معنى،هو نوع من المسافة والبعد،حيث تتحقق الصداقة كما يقول موريس بلانشو. إنها رؤية مبدعة تقوض كل تطابق أو تشابه، منتصرة للاختلاف،ذاك الذي يؤسس للصداقة، وينبذ كل اختلاف وحشي وكل تنميط أو تحنيط.