ارتداد معكوس لأشعة الشمس الصباحية، تخترق الألواح الزجاجية لنافذة البيت المواجه للمقهى،تحاشاها النادل طويلا متسائلا مع نفسه باستغراب: - ترى من سكن هذا البيت المهجور.. وفتح هذه النافذة اللعينة..؟ ضاع سؤاله مع وفود الزبائن، وانصهاره في دوامة طلباتهم التي لا تنتهي.. كان محقا بتساؤله؛ فجل المنازل المجاورة للمقهى والمحيطة بالسوق قد غادرها أصحابها مكرهين، وتحولت إلى مخازن يكدس فيها التجار سلعهم، كما أن الشارع الذي يفصل الحي عن السوق أصبح غاصا بالباعة، إما متجولين بعرباتهم طولا وعرضا، أو مفترشين الأرض بسلعهم المختلفة.. يعج بالفوضى والصخب من طلوع الشمس إلى غروبها، تتناثر فيه الكلمات البذيئة، وغالبا ما تتطور إلى مشادات بين الباعة والزبائن أو الباعة أنفسهم. اضطرت أسرة سعاد التخلي عن شقتها بالطابق الثالث والسكن بهذا البيت الأرضي، بعد أن صدمتها سيارة كانت تسير بسرعة مفرطة عند عودتها من إعداديتها، أقعدتها الفراش مدة طويلة، غادرت على إثرها مقاعد الدراسة و فقدت معها القدرة على المشي، لتصبح سجينة كرسي متحرك. اختارت سعاد هذه الغرفة لنافذتها الكبيرة والمطلة على الشارع ،وتركت بينها وبين سريرها فراغا ،حتى يتسنى لها أن تتحرك بكرسيها كما تشاء. أصبحت هي متنفسها الوحيد وبوابتها إلى العالم الخارجي الذي افتقدته، وألغت المسافات والحدود مع عزلتها المضنية،تجلس وراءها متخفية بستائرها،تحرك ألواحها الزجاجية يمينا ويسارا ،تتابع عن كثب ما يجري في الشارع،تراقب أخلاط البشر تغذو وتروح في تزاحم وتدافع، وصياح الباعة يعلو وينخفض بعرض بضائعهم وأثمانها، بنغمات مختلفة تؤثث هذا الفضاء الملتهب والمتناقض . تعرفت على رواد المقهى أوقات جلوسهم وطلباتهم، و أسماء الباعة وبضائعهم من أصواتهم، تشاركهم نكتهم بابتسامتها، و حزنهم بقلقها، وتذمرهم باستيائها،لاتفارقها إلا ساعة الظهيرة عندما يخلو الشارع من رواده والمقهى من جالسيه، لتجتمع مع أسرتها على الغذاء وانتظار ممرضتها في المساء.. تعلقت كثيرا بهذه النافذة، التي كانت تفصل بين عالمين مختلفين متناقضين تعيشهما في آن واحد، عالم داخلي وعالم خارجي، عالم الصمت و عالم الصخب.. عالم داخلي بالبيت يسوده الصمت والسكون، فأبوها قليل الكلام وأمها غارقة في شؤون البيت،لا يبدده إلا أخوها عند قدومه في نهاية الأسبوع، وعالم خارجي بالشارع والسوق يحتضن الصخب والحركة،ولون آخر للحياة التي لا تنتهي.. كانت منارتها الدافئة التي أنارت سبيلها ،وأخرجتها من ضائقة الأحزان والانكفاء على الذات ،والالتجاء في حالتها إلى الأحلام كملاذ ومهرب، لتلج بها إلى عوالم أخرى لم تكن تبالي بها من قبل، تلتقط وتسجل في ذهنها مسارات الحياة بجميع أوجهها المختلفة، لأناس يكابدون شظف العيش متجاوزين همومهم. لاحظت الممرضة تحسنا ملموسا في حركات رجلي سعاد، وتجاوبها السريع في الترويض، ابتسمت لها وهي تقول: !- ما السر في تحسنك بهذه السرعة... حقا، إنه شيء مذهل... نظرت إليها بعيون قلقة وشفتاها تفتر عن ابتسامة قادمة، كعادتها لم تقل شيئا بل تابعت تمارينها بشيء من الحماس. بدأت حالتها تتحسن شيئا فشيئا ،والسوق يزداد صخبا وجلبة مع قدوم العطلة الصيفية، إلا أن الروائح النتنة القادمة من أقصى القمامة والتي تزكم الأنوف عندما تباغتها الريح، تضطرها أن تقفل نافذتها عدة مرات، وتتابع ما يجري بسمعها.. هذا الصباح فاجأها صمت ثقيل على غير عادته، تحركت من فراشها ثم زحفت نحو كرسيها دون ان تستعين بأمها، أدارت عجلاته بسرعة نحو النافذة ،حركت ألواح زجاجها كعادتها، أرسلت بصرها في كل الاتجاهات،الشارع يكاد يكون خاليا من رواده، جامدا من ضوضائه، وصمت رهيب يحتويه..اختفى الباعة بأصواتهم ونداءاتهم المتكررة ، ورواد المقهى غاب معظمهم.. أصاخت سمعها جيدا كانت بعض الأحذية الثقيلة تجوب المكان، حاولت الوقوف وهي على كرسيها المتحرك لتفتح النافذة وتتجلى حقيقة الأمر ،ندت عنها صرخة قوية مزقت سكون البيت، هرعت إليها أمها بسرعة فوجدتها واقفة على رجليها، متشبثة بألواح النافذة وهي مفتوحة على مصراعيها، وكرسيها المتحرك مقلوبا على مقربة منها..