يبدو أن العناية بالحلم قد ولدت مع ميلاد التحليل النفسي، كما لا يمكن أن ننكر أن ميلاد هذا الأخير قد كان في ارتباط بالأحلام. فمن المؤلفات النفسانية الأساس التي كانت أول ما ألفه سيغموند فرويد كتابه الذي أصدره سنة 1899 تحت عنوان: تفسير الأحلام(1)، وتلاه كتاب آخر سنة 1901 تحت عنوان: عن الحلم(2). ولم يهتم مؤسس التحليل النفسي بالأحلام الطبيعية فقط، بل خصّ الأحلام الأدبية بمؤلف كامل في دراسته لإحدى الروايات: الهذيان والأحلام في رواية « غراديفا» لصاحبها ينسن(3). والحلم الطبيعي، حسب معجم التحليل النفسي(4)، من تأليف اللاوعي، وهو لغز رمزي تسمح بنيته اللغوية للذات بالتعرف على رغبتها وتفكيكها. فالحلم تحقق متنكر لرغبة مكبوتة، وهو يشتغل باليات أساس من أهمها: التكثيف والتحويل. فالحلم يقوم بعمل تكثيفي ضخم، ذلك أنه من الممكن كتابة حلم في أسطر قليلة، لكن الأفكار التي يوحي بها يمكن أن تملأ صفحات عديدة. ومن آليات الحلم الضرورية التحويل، إذ بواسطته يتمّ قلب القيم، وتقديم المعنى في شكل متنكر، وإسقاط ظلال الغموض على دوال الحلم، وإظهار مركزه أي الحلم بشكل مغاير. وهناك من الباحثين المعاصرين من يدعو إلى استثمار كتابات فرويد عن الحلم الطبيعي في قراءة النص الأدبي، نظرا إلى التماثل القوي الموجود بين الاثنين. ذلك أن ما يجب أن يلفت الانتباه هو : أولا أن الحلم الطبيعي الذي يعالجه المحلل النفساني هو محكي ينتجه الحالم عندما يسترد وعيه، أي انه، بعبارة اللسانيين، ملفوظ سردي. وثانيا، أن الحلم يقدم نفسه باعتباره نصا تنسجه التمثيلات والانفعالات، لكنه ليس رسالة من أحد ما إلى أحد آخر، ذلك لأن الحلم لا يتكلم ولا يفكر، وفرويد يشدد على أنه عمل، فالرغبة الموجودة فيه تتكلم من أجل ألا تقول شيئا، ومن هنا ينبغي أن نرى فيه قوة وشكلا، وأن يكون اهتمام المحلل منصبا على عمل الحلم الذي يقع بين الرغبة والمحكي. والنص الأدبي، كما يفهم اليوم، يتكون من هذا العمل وبه، فهو نص أصيل يقدم للقراءة خطابا بدون عنوان ولا قصد سابق ولا مستوى محدد(5). وإلى اليوم، لا يزال الاهتمام منصبا على الحلم بنوعيه، الطبيعي و الأدبي. ومن كلاسيكيات الدراسات الأدبية للحلم، نشير إلى دراسات غاستون باشلار Gaston Bachelard وألبير بيغان Albert Beguin .ويمكن القول انه منذ أواخر القرن الماضي بدأت تظهر دراسات سردية جادة ورصينة للحكاية الحلمية وللحلم باعتباره محكيا. ومن أهم هذه الدراسات في الثقافة الفرنسية دراستان لصاحبهما فريديريك كانوفا Frederic Canovas، الأولى صدرت سنة 1992 تحت عنوان:دراسة سردية لمحكي الحلم في النثر الفرنسي (6)، والثانية صدرت سنة 2000 تحت عنوان : الكتابة الحلمية(7). وأهمية هاتين الدراستين، أنهما تدرسان الحلم في الأدب الفرنسي، وعند مختلف التيارات (الرومانسية، الواقعية، السريالية، الفانطاستيكية ...) وفي مختلف المراحل التاريخية، وتكشفان ضرورة الاهتمام بالحلم من منظورين: من منظور سردي بنيوي يركز على دراسة المحكيات الحلمية استنادا إلى أعمال جيرار جنيت، دون إهمال المحتوى السردي لمحكي الحلم. ومن منظور تداولي يركز على ما يجعل القاريء ينتبه إلى تحول في المستوى السردي، عندما يمرّ من المحكي الروائي مثلا إلى المحكي الحلمي. وفي نظر هذا الباحث، لابد مما يسميه: الميثاق الحلمي Le pacte onirique، أي لابد أن يعلن عن الحكاية باعتبارها حلما بطريقة مباشرة أو غير مباشرة( مثلا، عندما تستيقظ الشخصية وتضع حدا للحكاية الحلمية). ومن الدراسات الفرنسية المعاصرة التي لقيت الكثير من القبول أيضا، نجد دراسة جان دانيال كولي Jean-Daniel Gollut التي أصدرها سنة 1993 تحت عنوان: حكاية الأحلام: سرد التجربة الحلمية في أعمال الحداثة(8). وهي عبارة عن تحليل نسقي لمحكي الحلم الحديث باعتباره جنسا أدبيا له ما يخصه ويميزه في أسلوب محكياته وفي أنماطه السردية المختلفة، كما نجد في الدراسة تحليلا للحكاية الحلمية الحديثة. ومن أهم الدراسات التي صدرت باللغة الانجليزية، نذكر دراسات بورتي Laurence M.Porter التي أصدرها بين سنة 1979 وسنة 1993، وهي تهتم بالحلم عامة والحلم الأدبي خاصة. ونشير إلى مقالته التي لفتت انتباه المهتمين، وهي تحت عنوان: الأحلام الحقيقية، الأحلام الأدبية، والفانطاستيك داخل الأدب(9). وأهمية هذه المقالة أنها تعالج الحلم الأدبي في علاقة بالمحكي الفانطاستيكي، وتشكل مدخلا حقيقيا إلى دراسة سردية للحكاية الحلمية. وإذا كان صحيحا أن هذه العناية العلمية الكبيرة والدقيقة من طرف علماء النفس وعلماء الأدب بالحلم، الطبيعي والأدبي، هي وليدة العصر الحديث، فان الأصح أن علاقة الأدب بالحلم أقدم من ذلك. ذلك أننا نجد الأحلام في الآداب الشفوية، وفي الملاحم القديمة، وفي قصص الكتب الدينية. وفي أدبنا العربي، لم ينل الحلم الأدبي ما يستحق من الدرس العلمي، مع أنه ظل حاضرا في الكثير من المراحل الدقيقة والأعمال الأدبية المهمة. وإذا حصرنا الحديث في النثر العربي، يمكن أن نستحضر أحلام القران، وأكثرها تداولا أحلام النبي يوسف، فهي تقدم نفسها على أنها لغة رمزية لايعلم تأويلها إلا الراسخون في العلم، كما تقدم نفسها على أنها لا تقول الواقع الماضي أو الواقع الحاضر، بل هي تقول ما سيقع مستقبلا. ويمكن أن نستحضر أحلام ألف ليلة وليلة، وبعضها قد أعاد بورخيس كتابته في بعض قصصه. وفي العصر الحديث ازداد الاهتمام بالأحلام، وخاصة في الكتابات السردية، القصصية والروائية، والحداثية منها بالأخص. وإذا حصرنا الكلام في السرد المغربي الجديد، يمكن أن نستحضر أسماء من الثمانينات كانت السباقة إلى تجديد الكتابة القصصية، بحثا عن طرائق جديدة في التشخيص والتخييل، ومن هذه الأسماء محمد عز الدين التازي. ونقترح الوقوف قليلا عند مجموعته القصصية : شمس سوداء، التي صدرت في بداية الألفية الجديدة(10). أول ما يلفت النظر في قصص هذه المجموعة أن الأحلام لا تحضر باعتبارها عناصر جزئية من عناصر تكوين المحكي القصصي، بل إن القصة، في مجموعها، عبارة عن حلم. ويتعلق الأمر بمحكيات قصصية حلمية تسرد تارة بضمير المتكلم وتارة أخرى بضمير الغائب، وهي في الغالب تتكون من جمل قصيرة، وتأتي بسيطة في تركيبها، وفي كل حلم تحكى حكاية لها بداية ونهاية. وقيمة هذه القصص الأحلام لا يمكن أن تظهر إلا إذا استحضرنا السياق الأدبي الذي ظهرت فيه، والدور الذي لعبته في إحداث تحول في مفهوم الكتابة القصصية. فالأمر يتعلق بقصص جديدة تختلف عن القصص التي كان يكتبها الكتاب المغاربة في المراحل السابقة، وخاصة ما قبل الثمانينيات. مع القصص الأحلام، لم تعد الكتابة القصصية تقول الواقع الاجتماعي الخارجي فقط، بل أضحت تقول الواقع النفسي أيضا، والأكثر من هذا أن الكتابة لم تعد تشخص ما يعتبر « واقعيا « فقط، بل صارت تقترب مما يبدو « لاواقعيا «، وعادت القصة تجمع في قولها بين الواقعي واللاواقعي كما في هذا النموذج حيث نجد القصة تقول امتساخ الأنا وانقسامها، وهذه موضوعة نفسية بامتياز، تكشف أن النظرة إلى الذات، إلى الإنسان، قد تغيرت، وأن مهمة الأدب لا تكمن في أن يقول وحدة الإنسان وتطابقه، بل أن يكشف انقسامات الذات وشروخها، بمحكي قد يبدو واقعيا ولاواقعيا في الوقت نفسه: « في الزيارة السادسة قابلت بعض الجيران على الأدراج، ورأيتهم يتعجبون من ملامحي التي أحسست أنها قد تغيرت، لكني أصررت على الصعود، وفتحت باب الشقة بمفتاحي الخاص، فوجدت نفسي في مواجهة نفسي، كان شخص آخر هناك، يقف في وسط الصالة، بنفس قامتي وملامحي وثيابي التي كانت، وظل أنا القديم ينظر الي، حتى اقترب الجسد من الجسد، وتطابقا تماما، وحينما فكرت في الرجوع إلى تخومي وجدت أمامي تخوما أخرى غير تلك التخوم « ( قصة: زيارات، ص 12 ). ويضاف إلى ذلك أن القصة الحلم تزيد من قوة بعض آليات القول القصصي، وخاصة آلية التكثيف. فالمحكي الحلمي محكي رمزي استعاري يدفع بالمحكي القصصي إلى منطقة الشعري والرمزي، كما في هذا النموذج: « في الزيارة السابعة، رأيت دمي يسيح على أرضية تلك الشقة، فتراجعت نحو الباب، ولم أجد أي باب، وبقيت هناك» ( قصة: زيارات، ص 12 ). هل يمكن القول إننا مع قصص التازي انتقلنا من قصص خطابية أحادية المعنى تستند إلى إيديولوجية ما، وتسعى إلى تمرير رسالة ما، إلى محكي قصصي شعري متعدد المعنى ومفتوح على التأويل؟ الواقع أن التازي من مؤسسي المحكي الشعري بالمغرب في جنس القصة كما في جنس الرواية بشهادة الكثير من النقاد، وهو محكي لا يمكن أن ننكر أنه ارتقى بلغات السرد وجماليته ووظائفيته إلى المستوى الذي لا يبقى الأدب القصصي والروائي معه رهين ظروفه الزمانية والمكانية، ولا رهين إيديولوجيات ذات طابع أحادي وشمولي. للحلم دور كبير في تأسيس بعض العلوم النفسانية والأدبية، كما كان له دوما دور رئيس في الآداب الشفوية والمكتوبة، وهو يعود اليوم مع الكتابات الجديدة ليلعب دورا جوهريا في التحولات التي يعرفها مفهوم الأدب، والسردي خاصة. الهوامش: 1 Sigmund Freud, L interpretation des reves,1899,Trad Francaise,PUF,1926,1971 2 S Freud, Sur le reve,1901, Trad Franc,1988 3 S Freud, Delire et reves dans la Gradiva de Jensen, 1906,Trad Fran,1949,1971 4 Dictinnaire de la psychanalyse, Sous la direction de Rolland Chemama, Larousse,193 5 جان بيلمان نويل: التحليل النفسي والأدب، ترجمة حسن المودن، المجلس الأعلى للثقافة، 1997، وخاصة الفصل الثاني من الكتاب. 6 Frederic Canovas,Narratologie du recit de reve dans la prose francaise de Charles Nodier a Julien Gracq,PH.D.U.of Oregon, Departmentof Romance languages,1992 7 F Canovas, L Ecriture revee, L Harmattan,2000 8 Jean-Daniel Gollut,Conter les reves, la narration de l experience onirique dans les ?uvres de la modernite, Josi Corti,1993 9 Laurence M.Porter,Real Dreams,literary dreams,and the fantastic in literature, in, The dream and the text,essays on literature dnd language, ed,Carol Schreirer Rupprecht, State university Press of New yorc,1993 10 محمد عز الدين التازي: شمس سوداء، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب، 2000.