انتقل الإعلام في الربيع الديموقراطي إلى مستوى السلطة المجتمعية المؤثرة إيجابا في تسريع وتيرة التغيير والإصلاح، حيث بعدما إسهامه في تنوير الشعوب بشأن وضعها ومصيرها السياسي، يُنظر إليه اليوم بأنه السلطة التي يتعين إيلاؤها كامل العناية من أجل إتمام البناء الديموقراطي البطيء أو المتوقف، لكونه يؤدي في الغالب خدمة عمومية تطوقه بمهام وطنية سامية. ولا تزال غالبية الدول تحظى بإعلام عمومي له من الإمكانات ما يسمح له بالنهوض بمهام المرفق العام في الاتصال السمعي البصري وفي غيره، لكن مما يؤسف له كونه لا يزال يتحسّس طريقه ببطء في النهوض بالدور الحيوي الوطني المسنود له، بعد عامل الوصاية الإدارية طائلة الأمد عليه، وإن التطور التكنولوجي السريع في القطاع وما يعرفه من استقطاب للاستثمار ورؤوس الأموال سمح ببروز قطاع إعلامي خاص منافس للقطاع العمومي المتواضع وخاصة على مستوى الاتصال السمعي البصري، والذي لا يزال ضعيفا على مستوى جلب أكبر عدد مكن من المرتفقين المتتبعين، خاصة بعد بروز شبكات متطورة من القنوات الفضائية وبروز التلفزة الرقمية البديلة ووسائط اتصال حديثة شعبية أو مجتمعية أكثر قربا من غيرها. إن القطاع العمومي في الاتصال السمعي البصري لا يزال يثير التساؤلات الحارقة بعد عجزه عن أداء رسالته الوطنية، حيث مفروض فيه أن يؤدي خدمة عمومية بصفته مرفقا عاما يستفيد من المال العام ومن موارد بشرية وطنية عالية المستوى ومن إمكانيات لوجيستية هامة، مما لم يعد مسموحا معه لهذا المرفق الاتصالي العام أن يتباطأ اليوم في إسداء الخدمة العمومية الإعلامية بالشكل المطلوب، واستجابته للحاجيات الملحة للمواطن والجماعة على مستوى التنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية المراهن عليها. أضحى من اللازم أن يصبح المرفق الاتصالي العمومي مرفقا مواطنا يروم خدمة المواطنين بصفة خاصة وليس الجمهور، لكونه مرفقا يستغل طيف الترددات أو الترددات الراديوكهربائية المخصصة لفائدة قطاع الاتصال السمعي البصري في المخطط الوطني للترددات كملك العام للدولة، ويعد استعمال هذا المرفق لقطاع الاتصال السمعي البصري احتلالا خاصا للملك العام للدولة إضافة إلى استغلاله للمال العام، مما يجعله مرفقا سياديا استراتيجيا مكلفا بتنفيذ السياسة العامة للدولة، مما يكون معه من الصعب الثقة في غيره أو التفويض له بذلك تأدية لهذه المهمة نيابة عنه. إن اقتحام القطاع الخاص لقطاع الاتصال السمعي البصري وفتح باب الاستثمار فيه على مصراعيه إذاعيا أو تلفزيا خلخل الوظيفة السامية التي هي على كاهل القطاع العام أصلا، مما احتار معه هذا الأخير بشأن هل يواصل مهمته الأصلية في خدمة المجتمع أي المواطنين بشكل دقيق، أم ينتقل إلى مرفق عام اقتصادي همّه خدمة السوق والاستجابة لطلب الجمهور والمستهلك. بالرغم من إكراهات السوق وبالرغم من بريق القطاع الخاص وما يعرفه من مستجدات في قطاع الاتصال السمعي البصري يبقى القطاع العام هو عصب الحياة الوطنية في مختلف الدول الديموقراطية خاصة النامية منها، لكونه ذاك القطاع الوحيد الذي يؤدي خدمة عمومية على مستوى الإخبار النزيه والموضوعي والتثقيف السليم والبناء والتربية الوطنية الخالصة وفقا للقيم الديموقراطية المعترف بها دستوريا، وإن البلدان النامية وهي تشهد انتقالا ديموقراطيا متميزا لا يمكنها أن تعول على غير الإعلام العمومي لتحقيق ذلك في الأجل ووفق خصوصية البلاد والعباد. إن المرفق العمومي عامة بما فيه مرفق الاتصال السمعي البصري أصبح اليوم ملزما بالعمل وفقا لموجبات الفصل 154 من الدستور الجديد، الذي يلزم ضرورة خضوع القطاع لمبادئ كل من المساواة بين المواطنات والمواطنين في الولوج إليها، والإنصاف المجالي الترابي، والاستمرارية في اداء الخدمة الاتصالية دون توقف، مع الإلحاح على ضرورة انضباط هذا المرفق لمعايير الجودة والشفافية والمحاسبة والمسؤولية والمبادئ والقيم الديموقراطية الدستورية. إن السمعي البصري العمومي هو قطاع العامة والمواطنين كافة دون تمييز، مما يجعله ينجز مهامه في إطار التغطية الترابية والتغطية المجالية والبشرية، مهما كانت كلفة ذلك دون توخي الربح والكسب من وراءه، من منطلق كون الخدمة العمومية الاتصالية هي خدمة سياسية واجتماعية وثقافية قبل أن تكون اقتصادية، عكس الخدمة الإعلامية للقطاع الخاص التي تقدم خدمات وطنية لاشك لكن تحت هاجس الربح والكسب السريع وجلب الجمهور الكثيف من أجل استهلاك الخدمة المقدّمة والاستمتاع بها، وفي صدارتها برامج الترفيه والفرجة والفكاهة، مما يحفزها على البحث عن إيصال خدمتها للمناطق الأكثر كثافة والأكثر مشاهدة والأكثر تحضرا والأكثر يُسرا حتى تقوى على الاستجابة لطلباته في اقتناء الخدمات والسلع الإشهارية والتفاعل مع برامجه الترفيهية والدرامية والفكاهية وما شابهها. إن المرفق الاتصالي العمومي هو مرفق يروم خدمة المواطنين وليس الجمهور، من منطلق أن المواطنين هم دافعو الضرائب وهم موضوع وهدف الخدمة العمومية بخلاف الخدمة الخاصة في القطاع التي تستهدف الجمهور والمستهلك، مما يفرض اليوم ضرورة الابتعاد عن نظرية الجمهور وإزالتها من قاموس الخدمة العمومية، لكونها فكرة مستوردة أتت بالترفيه بدل التربية وجاءت بالفكاهة بدل الثقافة وبالعرض السطحي للمستجدات عوض الإخبار النزيه. في خضم الربيع الديموقراطي يتعين النظر إلى مرتفقي القطاع السمعي البصري العمومي كمواطنين من الواجب مراعاة آمالهم وآلامهم قبل تحقيق أحلامهم الوردية، لكون نظرية «الجمهور» ميّعت الرؤية الحقيقية للمواطن، كفاعل سياسي هام في المعادلة الديموقراطية الحديثة، حيث لم تجن العديد من الدول من نظرية»الجمهور عايز كده» إلا تسطيحا وتخديرا للشعوب وإبعادها عن مشاكلها الحقيقية، وعدم تزويدهم بمنهج تحليلي ونقدي لأوضاعهم اليومية، بعد أن تغلّب منطق السوق والعولمة على قطاع الإعلام بتعليب وتسليع الخدمات، خاصة بعد الانتقال إلى الاتصال الرقمي عوض التناظري، الحافل بآلاف القنوات الجذابة شكلا ومنهجا لا مضمونا.