لا يمكنني الحديث عن الموضوع المتصل بالقراءة والثقافة من زاوية المتخصص: الذي يعرف الإحصاء و المتوسط الحسابي و النسب المائوية... والاستمارة و التحقيق والاستجواب.... وتشبيه الوضعية ... فأقصى ما يمكنني الحديث عنه هو التساؤل عما هي القراءة؟ وما هي الثقافة وما المقصود بالرهان الثقافي ؟ لكن وضع الأسئلة بهذا الشكل يضعني رغما عني في سطحية لافكاك منها كالقول: القراءة ثقافة .القراءة واجب. القراءة تعلم . المجتمع الذي لا يقرأ لا ثقافة له. المقروئية تتوقف على الإمكانيات. التعليم استقال من مهمته في تأهيل القراءة و الكتابة بله الثقافة.... لا أستهين بهذه التعريفات ولا بهذه الشعارات إن كان المقصود بها هو إرشاد الشباب والطلاب و نيل انخراطهم في مجتمع القراءة و البحث الثقافي و المطالبة بمجتمع المعرفة... وحتى إن أنا صادرت على المطلوب في القراءة واعتبرتها منعدمة في المغرب أو تكاد، فما أهمية الحديث عن الثقافة و بالتالي عن الرهان الثقافي بالمغرب؟ لا أحد في اعتقادي يعد مسؤولا عن القراءة وغيابها وعن الوضع الثقافي الناجم عنها أكثر من المثقف و الثقافة . فمن هو المتقف الآن؟ وماهي الصورة التي يقدمها ويروجها عن نفسه؟ وما هي طبيعة الثقافة السائدة الآن؟ وما نوع الثقافة التي نحتاج إليها في المستقبل؟ أريد الحديث إذن لا عن القراءة كما ألمحت إليها و إنما أريد الحديث عن جوهر القراءة، وعن ما هيتها . فما الذي يجعل القراءة قراءة؟ وما الذي يمنحها معنى إقرأ و تمتع؟ بادئ ذي بدئ: القراءة عشق. كما نعشق شيئا أو إنسانا. فنهيم فيه ونستهيم به. و القراءة بعد ذلك متعة: متعة الاستكشاف، متعة الفضول، متعة المعرفة، متعة الاندهاش، متعة الحلم، متعة الاستعلاء... لكن من ذا الذي يدفعنا حبا إلى هذا العشق؟ وإلى هذه المتعة؟ من هو هذا المثقف الذي يستطيع ارتكاب هذه المكارم ويجعلنا نعاني من هذا الابتلاء الذي نكاد نستتر فيه إذا ولجنا فضاءات المعلوميات حيث يتحول الكتاب إلى وجه و القراءة إلى زقزقة عصافير؟ قبل الحديث عن هذا الذي يدفعنا إلى هذا الحب. لا بد من الحديث عن ذلك الذي يصدنا عنه. إنه ليس بالضرورة إنسان فنان أو كاتب. فقد يكون عصرا أو مرحلة أو اهتماما أو وسائل : كعصر الترفيه و الاستهلاك ومرحلة الحروب والانقسامات واهتمامات وانشغالات عملية أو تجارية وتكنولوجيا ومعلوميات ... كل هذه الحالات الصادة و الصادمة معروفة.. إلا حالة واحدة تكاد تكون منسية هي حالة ذلك الذي يجعلنا ننفر من القراءة وجواراتها ، ونكره الوسط الذي يعيش فيه وينتمي إليه.. ونشمئز من تزلفه وانتهازتيه ولا نقبل على القراءة ولا نعشقها بفعله وبسببه. فما السبيل إلى قراءته وهو لا يحمل قيم القراءة؟ لا أقصد بقيم القراءة الأخلاق و المعاملات ( لقد كان هنري ميلر زنديقا، ومحمد شكري صعلوكا، وأبو نواس شاذا و الماركيزدو صاد عدوانيا ...) ومع ذلك كانت في كتاباتهم قيم القراءة و فضائلها...لأن ابتلاءهم مارسوه في الحياة لا في الكتابة ... كانوا كذلك في نمط عيشهم لا في نمط كتابتهم، بتعبير آخر .. لم تكن كتاباتهم زندقة ولا صعلكة بل كانت فنا و جمالا واستعلاء وسموا لموضوعات رخيصة صحيح ، وميولات منحرفة أكيد... لكنهم كانوا يحثوننا على القراءة ويلزموننا بملازمتنا. أما ذلك الذي يصدنا عنها فيمارس القذارة في القراءة والكتابة. ويتخذ الكتابة وبالتالي القراءة مطية لتحقق أهداف دنيئة بعيون رخيصة . أما صاحبنا الآخر فهو قارئ من نخبة القراء. وكاتب من زبدة الكتاب. هو الذي يدفعنا إلى عشق القراءة و الإدمان عليها وهو الذي يعلمنا متاهات المتعة ومخالبها: كاتب من عيار هوميروس، و أفلاطون، ومن عيار شيشرون و أبولينير ، وعيار رولان بارت ولذة النص وديريدا و تفكيكه .هو روائي كنجيب محفوظ وأولاد حارتنا و يوسف القعيد وما حدث في الصعيد، و اللجنة أو اللذة لصنع الله إبراهيم .. و اللائحة تمتد حتى المغرب كل هؤلاء استطاعوا بهذا الشكل أو ذلك و بهذا القدر أو ذلك مقاربة مفارقة العظيم أو المتعالي : أي استطاعوا التعبير كما لا يمكن التعبير عنه، واستطاعوا رفع النهائي إلى ما لا ينتهي ... وأبدعوا حيث الإبداع هو الإتيان بالشيء لأول مرة. جوهر القراءة إذن هو هذه القدرة على إبداع المتعة لدى القارئ .