لأني أحببتك يا امرأة ، هأنذا أتخذ كلماتك مدخلا جميلا لكلماتي .. أنا التي سقطت ، وأنا التي لزمت موقع سقوطي .. أنا التي كنت ألعن شعور الحب إذا تحول عملة للمقايضة ، وألعن الوفاء إذا صار درهما في سوق الخضر، وألعن الصّدق إذا عاد مجرّد قشرة موز في مزبلة الترهات تصطاد خطوات بلا دليل .. أنا السّاقطة في بقايا المكان ، وعلى جسدي علامة فشل ، وفي فؤادي مدخنة صغيرة ، يخرج منها دخان نار تحرق القلب وتكويه ، توقظ فيه هدوء الألم والندم .. لم أكن فقط قد مت ، إنما كنت منساقة عبر فجاج الضياع ، طوع تيار الهواء الأخير ، صوب مقبرة قديمة دفنت فيها أجساد حصدتها مناجل اليأس ، وآلمتها سياط العذاب .. وئدت فيها آمال .. .. .. ومن طيّات موتي نهضت نداءات أقعدها الجبن عمرا ضاع منيّ ، انتشلت روحي من قبضة جلاد المنية المستوردة رغما عن حنقه .. وسيفه المشهور .. فاستسلمت للمصير .. وقلت : لأدع الأمور تمشي على هواها .. تكرّرت النداءات ، تحوّلت صرخات ، ثمّ آيات ، بعدها تحوّلت إلى صلوات مقامة في محاريبي العميقة .. ولا أزال كما كنت أصلي وسط مأساة ، وأترقب يوم يمنحونني رقم قبري ، وإسم النمل الذي سينخر جثتي ، ثم بطاقتي وتأشيرة ارتقاء من دنيا .. إلى .. دنيا .. كثيرون هم جالسون في ساحة مقهى الرّاحة . كانوا يتجاذبون أطراف الحديث ، ويتيهون في شعبه المتشعبة . يخفتون أصواتهم باللامباح منه ، ويرفعونها بمباحه .. يسمعون النكتة ويضحكون .. ثم يصمتون ، ويندمون .. ويسمعون الحكمة من أهل الكلام . أهل الكلام يتسولون خبزهم بذكر هول يوم القيامة ، وعذاب الآخرة .. يأتون المقهى ليثرثروا بما يحفظون من كلام السادة أصحاب النية ، يفصلون بين القول والقول بدقات على بندير حامي .. ثم يمدون أيديهم مستعطين شي بركة من الأفقر والأحوج منهم ، فيسيل ماء وجوههم ، وترخص الحكمة .. يا ويلتاه .. كم يوجد الفقر من كذب ، حيل ، بدع ، ضلالات .. كم يلهب من نيران لا تكتشف إلا في زمن رمادها .. وهم ينثرون الكلام المرصع من أفواههم مدعما بحركات كالتي للذين يعرفون قراءة قصائدهم ، تحسبهم حكماء حقا لا يريدون من دار الدنيا شيئا .. ثم وهم يمدون أياديهم كل المد تنقلب كل المفاهيم .. « أعطني صدقة على والديك .. « ثم ماذا .. ؟ « تجدها غدا يوم الحساب في ميزانك مقدرة بسبعمائة حسنة .. « ثم ماذا .. ؟ « يغفر لك بها الله سبعمائة سيئة .. « ثم ماذا .. ؟ تدخل جنة تجري من تحتها الأنهار .. « ثم ماذا .. ؟ صمت . حيرة . وكرر ثالثهم السؤال : ثم ماذا .. ؟ ولا جواب .. كان المتكلم قد انصرف إلى طاولة أخرى ، وبذلك جنب نفسه ثورة ضده .. رغم ذلك ظل ثالثهم يرميه بكلام تتوزعه السخرية والجدية .. أولهم تتوتر أعصابه كلما قوبل باعتراض عما يقول من طرف أحد جلسائه ، أو برفض تام لما يعتقده هو كتصور مبدئي يجب أن يتبنى ، أن يسود .. يطفر الغضب من بياض عينيه أحمر ، فلا يكف عن إيجاد مبررات لكلامه ، لثرثرته ، لأفكاره المأخوذة عن صفوة الأساتذة ، المأخوذة من أمهات الكتب والمراجع على حد قوله المتكرر لدرجة الملل .. لايكف عن تبرير العدم ، نعم العدم ، حتى يلبسه رداء حقيقة مهلهلة ، بل حتى يحصل على موافقة معارضيه ، رافضيه ، وإن كان لايرجى من وراء هذه الموافقة منهم إلا إسكاته .. وهو .. ؟ لا تهمه الأفكار أكانت خاطئة أو صائبة ، تهمه الموافقة على ما يقول في المجالس يكسبها .. وكفى .. حريص هو على انتقاد النشرات الإخبارية عند سماعها ، عند مشاهدتها على تلفاز المقهى ، فليس ببيته تلفاز حتى بالأبيض والأسود ، ولا كهرباء .. وعند قراءتها عناوين مكبرة مزوقة ، مكتوبة بالخط العربي الذي باع قحاحته للتطور الصناعي ، متصدرة صفحات الجرائد والمجلات .. قد حدث له أن مزق جريدة لأنها تناولت موضوعا بالتحليل من خلفية واضحة ، من رجعية مدسوسة للقراء الأغبياء .. ومزق مجلة لأنها خصت صفحة كاملة لجسد عار لراقصة نجمة ، وغضت القلم عن الأهم .. وحرق كم من مجلة وجريدة لأنها روجت إشهارات ضد المستهلك المكوي بالأسعار والفراغ .. والإهانة .. كم من مرة كان منه التمزيق والحرق .. ؟ الله أعلم ، إنما على كل جريدة ما يدعو لذلك ، وعلى كل مجلة ما يدعو لأكثر من ذلك .. أولهم . يظل يلولب رأسه نصف لولبة تعبيرا عن عدم رضاه ، وقليلات هي المرات التي يهزه فيها بالإيجاب .. لا تفوته شاذة ولا فاذة من أمور الواقع المقروء في عمر مليء بالمحن ، هكذا يتوهم ، كأنه المسؤول عن النوق لما تعثر في طريق الصحراء ، وربما مسؤولون من هذا النوع أكثر منه خلودا إلى الراحة ، أقل منه كلاما موجبا في مواضيع السلبيات .. يحمر وجهه كطماطم بائرة في حقولها قبل الأسواق . يصب جام سخطه على البطالة المتفشية ، وعلى العشرة الملعونين فيها .. ويضحك في سخرية ممثلة بإتقان وهو يستشهد بمقولة أحد المهتمين بها ، البطالة التي أكلت أزهار الربيع في عز ربيعها .. اعطوني يوما في النعيم ، عمرا في الكفاف ، أغفر لكم كل العذاب جرعتموه لي قطرة قطرة .. آه .. يا زمني الضائع آه .. ياحلمي المصلوب على جدار صبر .. ومستحيل مدبر .. ثانيهم يحكي آخر ما جد من النكت والنوادر والطرائف ، يركز في حكيه كأنه يعرض فكرة مهمة يخاف أن يحرف معناها بزيادة أو نقصان . يطيل لدرجة الملل رغم إمكانية الإختزال ، فيقتل في ذوات السامعين آخر استعداد للضحك . يستعين بالحركات السمورفية كأن أمامه أخشاب مسندة ، ويستعين بإيماءات القردة كأن أمامه عقول صخرية .. وأخيرا يضحك السامعون من النكتة قليلا ، ومن راويها كثيرا .. ثالثهم يتكلم عن الحاج عبد الرحمان الذي ضبط بين فخذي الحاجة زينب ، وعن الحاج الطيب الذي اغتصب فتاة في عمر حفيدته .. « والله ما يفعلها حتى شاب مراهق .. هكذا يعلق ثالثهم .. يتكلم عن الصيد البحري في جدول أعمالهم ، والحرب المنتعشة بين العرب والفرس ، وفلسطينيين يمطرون العدو حجارة من سجيل ، ويموتون تاركين التفرجة بين وسطاهم وسبابتهم .. يتكلم عن جائزة الكونكور التي وشحت صدر الطاهر بن جلون وأسالت لعاب كاتبة سيناريوهات .. يتكلم في كل واد ، وفي أي واد يخطب .. يستغرق في الشرح والتفسير ، والتأكيد ، وقتا ثمينا ،، فينتهي به المطاف إلى لجج لا خلاص له منها ، بعدها ، فلا هو بالمفيد ولاهم بالمستفيدين .. رغم ذلك لا يتوقف عن الكلام ، عن الهذر أحيانا ، متطفلا على أوسع المصطلحات وأضخمها ، كأنه فيلسوف بعث من القبور اليونانية الغابرة ، حيث كانت كل العلوم فلسفة وكان للفلسفة هدف واحد نبيل ، هكذا ترى الإبستمولوجيا .. رابعهم صامتا كالتمثال ، يديم صلاحية الصمت ، ويجسد مثاله في الإستدلال : الصمت حكمة .. لايتكلم إلا لضرورة لها مقياس في دفائنه ، وباختصار . لا يتكلم إلا ليدلي بحكمة تقتضيها الحاجة ، الساعة التي لا تتغير..هكذا كان رابعهم يعتقد ، وكانوا يجارونه في اعتقاده ،، يسمونه فاصل اللب عن اللغو .. وكانت تلك التسمية تنطق بلهجة استهانة لا لهجة صدق .. كانوا يعبثون في زمن عابث بهم .. فقط يعبثون .. *- كاتب مغربي مقيم في هولندا