تحقيق النقلة النوعية لم يكن التوجه الإعلامي الجديد الذي قادته نادية على المستوى الإعلامي داخل منظمة التحرير الفلسطينية، مجرد موضوع نظري، بل تمت ترجمته إلى الواقع، بحيث تحولت مجلة الحرية ،إضافة إلى كونها واحدة من أبرز المنابر التقدمية وحلقة تواصل وتفاعل بين المثقفين العرب، إلى مرجع للمهتمين بالشأن الإسرائيلي، حيث كللت الجهود التي قادتها نادية بنجاح كبير، بعدما ارتقى الإهتمام بالموضوع الإسرائيلي من مجرد ملامسة الجوانب الظاهرة والمتعارف عليها، إلى النفاذ لأعماق مكونات المجتمع الإسرائيلي وآلية صناعة السياسات الإسرائيلية، وكيفية عمل المؤسسات المختلفة للدولة، وخاصة المؤسستين الأمنية والعسكرية، وبفضل ذلك لم تعد إسرائيل اللغز الذي يحير المهتمين، وإنما أصبح من الممكن فهمها ، وتوقع مخططاتتها وسياساتها استشراف مستقبلها. علي مستوى الممارسة الإعلامية والتعاطي السياسي مع الشزن الإسرائيلي ،من خلال هذه المقاربة الجديدة التي شارك فيها إلى جانب المرحومة نادية العشرات من المختصين والدارسين، حيث أن صفحات الحرية قد تحولت إلى مرجع لا يمكن الإستغناء عنه من أجل فهم السياسات الإسرائيلية وآليات عمل المؤسسات والأجهزة. وتمخض عن هذا الفهم الجديد التفتيش عن أشكال جديدة من العمل الإعلامي من عرض الندوات وتنظيم اللقاءات لفهم إسرائيل بشكل عقلاني بعيدا عن لغة الخشب. نادية في إذاعة صوت فلسطين عندما التحقت نادية بصوت فلسطين الإذاعة الرسمية لمنظمة التحرير الفلسطينية لاحظت غياب برنامج خاص باللغة العبرية يوجه للمجتمع الإسرائيلي، فتقدمت سنة 1979 باقتراح للقائمين على الإعلام الفلسطيني يؤكد على ضرورة الإسراع بتخصيص برنامج باللغة العبرية يستهدف بالدرجة الأولى الاسرائيليين داخل الأراضي المحتلة، وأعدت، بهذا الخصوص، مشروعاً متكاملا يهم مضمون البرنامج ووسائل تنفيذه، ولقي الاقتراح قبولا كبيراً من قبل مسؤولي الإذاعة الفلسطينية وإعلام منظمة التحرير اقتناعاً منهم بأنه اقتراح وجيه جاء ليملأ فراغاً كان يعاني منه الأداء الإعلامي الفلسطيني في تعاطيه مع المجتمع الإسرائيلي بتناقضاته وتشعباته ومشاكله. وانطلق العمل بهذا البرنامج في أواخر سنة 1979 لمدة ساعة يوميا ثم ارتفعت الحصة إلى ساعتين من مطلع سنة 1980. كانت نادية شديدة الإيمان بدور الإعلام المسموع وتأثيره في تشكيل الرأي العام، من خلال تقديم مادة إعلامية متوازنة، وأشرفت شخصيا على إعداد هذا البرنامج من أجل ضمان أكبر مردودية ومنفعة، خاصة مع قصر الفترة المخصصة له. ولشدة حرصها على إيصال رسالتها الإعلامية للمستعمين المستهدفين، كانت نادية تكتب مادة البرنامج بحروف لاتينية، وتقوم بتقديمها بالعبرية، كما قامت بإشراك العديد من الإعلاميين الفلسطينيين واللبنانيين الذين يتقنون الحديث باللغة العبرية في هذا البرنامج الذي سيلقى الكثير من الترحيب. وتنوعت اهتمامات هذا البرنامج، فبالإضافة إلى إذاعة الاخبار المختلفة، تم الاهتمام بالاصناف الصحفية الأخرى كالتعليق والحوار الخفيف والتحقيق، مع التركيز على المواضيع التي كان الإعلام الإسرائيلي يتجنبُها أو يوليها أهمية محدودة، خاصة الصراعات الاجتماعية والانقسامات، على أسس عرقية داخل المجتمع الإسرائيلي. وكان من الأهداف الرئيسية لهذا البرنامج هو المساهمة في تغيير الصورة النمطية التي كان الإعلام الإسرائيلي الرسمي يقدمها عن الثورة الفلسطينية، وكفاح الشعب الفلسطيني من أجل التحرر والاستقلال والكرامة وفضح مواقف هذا الإعلام المطبوعة بالعنصرية والاستعلاء، وهكذا كان البرنامج العبري الذي تشرف عليه نادية يحاول تقديم صورة حقيقية ترتكز على الموضوعية والمهنية، تبين مشروعية وإنسانية كفاح الشعب الفلسطيني وبعد فترة قليلة من البث الإذاعي لهذا البرنامج ظهرت أهميته بالنسبة للقضية الفلسطينية ، حيث كان له تأثير كبير على المجتمع الإسرائيلي، وأصبح عدد المستمعين يتوسع يوماً بعد آخر، وهو ما أكدته الصحف الإسرائيلية مراراً ونبهت إلى خطورة الرسالة التي يحملها البرنامج العبري، والتهديد الذي يشكله بالنسبة للإديولوجية الصهيونية. مباشرة مع ممثلي المجتمع الاسرائيلي وقد تمكنت المناضلة نادية إلى جانب القائمين على البرنامج من إجراء مقابلات مباشرة مع العديد من ممثلي المجتمع الإسرائيلي، وخاصة من الرافضين للمشروع الصهيوني، حيث ساهم البرنامج العبري، اعتماداً على فاعلين من داخل إسرائيل، على كشف الطبيعة العنصرية التي تقوم عليها الدولة العبرية، وفضح الصورة التي تسوقها عن نفسها، باعتبارها بلداً لجميع اليهود، وأظهر البرنامج أن المجتمع الإسرائيلي يعرف صراعات وتناقضات عميقة لا يمكن معالجتها بأية مهدئات ، حتي وإن كانت «واحة الديمقراطية» التي يتم الترويج لها ويتجلى الطابع العنصري في الممارسات التمييزية الظالمة ضد اليهود الشرقيين، وكذا الفلسطينيين في مناطق الجليل والمثلث والنقب والمسمى بمناطق 48. وبفضل نادية فتحت منظمة التحرير جبهة جديدة لفائدتها، حتى لاقى برنامجها تجاوباً كبيرا لدى فئات واسعة من المجتمع الإسرائيلي، حيث كان التواصل يتم بوسائل مختلفة عبر محطات موجودة في قبرص وبلدان أوروبية أخرى، كما لعب الاتصال بالهاتف دوراً هاماً في إغناء النقاشات وعرض وجهات نظر مختلفة حول القضية الفلسطينية. ولم تنس نادية الأسيرة السابقة بعض السجينات السابقات اللائي تعرفت عليهن في السجون الاسرائيلية، حيث فتحت لهن المجال في هذا البرنامج وتفاعلت مع همومهن وانشغالاتهن، وساهمت في فضح مظاهر التعذيب والتهديد التي كن يتعرضن لها. وبالرغم من قصر التجربة والمدة المخصصة للبرنامج، فقد كان من الأهمية بمكان، على المستوى الإعلامي بحيث أنه أحدث حالة من التفاعل لدى الجمهور الاسرائيلي الذي وجد نفسه على الإنصات إلى الألم الفلسطيني من خلال موعد يومي مع صوت فلسطين يخاطبه باللغة العبرية مباشرة، ويطرح وجهة نظر مختلفة عما تعود عليه من قبل الآلة الصهيونية.