حدثان ميزا الثلث الأول من شهر أغسطس 2011، الزلزال الذي أصاب الأسواق المالية الدولية والاضطرابات العنيفة في بريطانيا. هناك من ربط بينهما وآخرون أعتبروا الأمر مصادفة لا أكثر. يوم الاربعاء 10 أغسطس 2011 ذكرت وكالة فرانس برس أن فاتورة العاصفة التي هبت من يوم الجمعة 5 أغسطس حتى يوم الاثنين 8 أغسطس على البورصات الرئيسية في الغرب ارتفعت إلى 917 مليار يورو خسرتها الشركات والبنوك الأوروبية والأمريكية حسب تقديرات مؤسسة «ديكسيا». وهكذا تبخرت في الهواء خلال يومين هذه الثروة الضخمة، فيوم الجمعة سجل انهيار ضخم في البورصات الأوروبية بسبب المخاوف من انتشار عدوى الدين الأمريكي المتراكم. بعد ظهر الاربعاء 10 أغسطس شهدت البورصات الاوروبية تراجعا حادا متأثرة ببورصة وول ستريت التي بدأت جلساتها على انخفاض حاد تجاوز الثلاثة في المئة وبمخاوفَ جديدة بشأن اليونان. كما سجل القطاع المصرفي في اوروبا خسائرَ كبيرة ولا سيما بنك سوسييتيه جنرال الذي خسر عشرين بالمئة في بورصة باريس بعد الظهر، وسط شائعاتٍ اثارت جنون الاسواق عن احتمال خفض درجة التصنيف الائتماني في فرنسا. سيناريو خسائر البورصات الأمريكية والأوروبية تكرر في أغلب الأسواق المالية العالمية وخاصة في دول الخليج العربي حيث تبخرت خلال ساعات عشرات ملايير الدولارات. خفض التصنيف الائتماني زلزال البورصات الذي بدأ في الثلث الأول من شهر أغسطس 2011 جاء بعد قرار وكالة «ستاندرد اند بورز» خفض التصنيف الائتماني للولايات المتحدة. عدد من الخبراء رأوا أنه كان قرارا قاسيا ولكنه عقوبة منطقية لواشنطن بسبب عجزها على التحكم في ديونها المتزايدة بشكل كبير. وخفضت «ستاندرد اند بورز» درجة تصنيف الولاياتالمتحدة لاول مرة في تاريخها الجمعة 5 أغسطس من اعلى درجة «ايه ايه ايه» الى «ايه ايه+» لتخرج الولاياتالمتحدة من مجموعة أكبر مقترضين في العالم ومن بينهم شركاؤها في مجموعة السبع وهم بريطانيا وكنداوفرنسا والمانيا. وقال الخبير الاقتصادي جارد برينشتاين، المستشار السابق لنائب الرئيس الامريكي جو بايدن على مدونته على الانترنت «ان انتقادهم لسياستنا العاجزة وعدم قدرتنا على الحصول على عائدات في اطار صفقة خفض العجز، منطقي للغاية». ورأى المحلل الاقتصادي نوريل روبيني المعروف بتوقعاته القاتمة، انه كان على الولاياتالمتحدة ان تتوقع تلك الخطوة التي طبقت على دول اوروبية لاسباب مماثلة. وقال لتلفزيون «بلومبرغ»: «لقد خفضت الوكالات درجات تصنيف عدد من الدول الاوروبية، وانتقد الاوروبيون تلك الوكالات بقولهم لماذا تخفضون تصنيفاتنا ولا تخفضون تصنيف الولاياتالمتحدة؟». كالعادة لجأت واشنطن إلى سياسة الترهيب والتشكيك في القرار، حيث اصدرت وزارة الخزانة الامريكية بيانا قالت فيه ان «ستاندرد اند بورز» ارتكبت «خطأ» يثير الشكوك في «نزاهتها». وازمة الدين الامريكي الذي وصل الى 100 في المئة من اجمالي الناتج المحلي هي مشابهة للوضع في دول اخرى خسرت درجة «ايه ايه ايه» مثل اليابان، التي لم تستعد تلك الدرجة مطلقا، بعكس دول مثل كندا التي استعادت ذلك التصنيف بعد جهود سياسية ومالية هائلة. واضافت «ستاندرد اند بورز» مزيدا من السلبية لوضع التنصيفات الامريكية حيث حذرت من احتمال اجراء مزيد من التخفيض على درجة التصنيف خلال عامين اذا لم يتم تحقيق تقدم في تحسين الوضع المالي في البلاد. طوفان الخسائر الكثير من الخبراء توقعوا أن لا يتوقف طوفان الخسائر، وقد أعرب خبراء في الخليج العربي عن تخوفهم من التداعيات السلبية التي يمكن أن تتركها أزمة خفض التصنيف الائتماني للولايات المتحدة على اقتصاد بلادهم، لا سيما إذا تراجعت أسعار النفط. وقال هؤلاء الخبراء ل»رويترز» إن أهم مجالات القلق تكمن في التراجع المحتمل لأسعار النفط، بالاضافة للتأثير على سعر صرف الدولار وتأثر الاستثمارات الحكومية الخليجية في الولاياتالمتحدة. وذكر جاسم السعدون، مدير مركز الشال للاستشارات الاقتصادية، أن الخوف والرعب الحالي ناتج عن القلق من حدوث «سيناريو الكارثة» على غرار أزمة الكساد العالمي عام 1929. وأضاف إن «سيناريو الكارثة» يتصور انهيارا في أسعار النفط على غرار الانهيار الذي أصابها عام 2008، عندما تراجعت الأسعار من مستوى 147 دولارا للبرميل في يوليو 2008 إلى أكثر قليلا من 30 دولارا في ديسمبر من العام نفسه، بالاضافة إلى انهيار سعر صرف الدولار. واضاف «هذا السيناريو إذا حدث سيؤثر علينا كما سيؤثر على الصينيين والهنود وغيرهم. ويقول اقتصاديون أن الخسائر الضخمة المسجلة في البورصات وتكرر الأزمات الاقتصادية على الصعيد العالمي وإنطلاقا من الدول الرأسمالية تعني بكل بساطة أن هناك خللا عميقا في السياسات المتبعة. ويذهب محللون غربيون إلى القول أن الأزمات المتتابعة وأساليب تسكينها بدل البحث عن حلول جذرية لها مؤشر على أن النظام الإقتصادي الرأسمالي الحالي لم يعد صالحا ولا قادرا على الاستمرار، وأنه يجب البحث عن بديل، ذلك لأن غالبية الدول الغربية وخاصة الولاياتالمتحدة تعيش في مستوى اقتصادي يفوق إمكانياتها وهذا يتم على حساب دول العالم الأخرى. ويشبه هؤلاء المحللون الوضع الاقتصادي العالمي بالنظم الاقطاعية في عدة بلدان خلال قرون خلت حيث كانت أقلية تملك الثروة والسلطة في حين يعيش غالبية الشعب في الفقر والمرض. الثورة في بريطانيا موازاة مع الرجة التي أصابت البورصات العالمية أندلعت في بريطانيا أعمال عنف وصفها محللون بثورة المحرومين والمهمشين على نظام سياسي وإقتصادي يخدم مصالح الأغنياء على حساب الشعب، في حين وصفها آخرون ومن بينهم رئيس الحكومة البريطانية بأعمال شغب هدفها السرقة والنهب. حكومات دول غربية أخرى وخاصة إسبانيا والبرتغال واليونان حبست أنفاسها خوفا من اضطرابات مشابهة على أراضيها، فيما سخر معارضون غربيون من اساليب تعامل لندن مع أزمتها مشيرين إلى أنها تتبع نفس الخطى التي أنتقدت اتخاذها من طرف دول أخرى خاصة في المنطقة العربية خلال ما سمته بالربيع العربي. يوم الخميس 11 أغسطس تحدث رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون تدابير جديدة لانهاء اسوأ اعمال عنف شهدتها البلاد منذ عقود واقر بانه يدرس احتمال استخدام قوات الجيش لانهاء اعمال العنف. واعلن كاميرون خلال جلسة طارئة للبرلمان انه اعطى قوات الشرطة صلاحيات اضافية، واضاف انه ازاء اعمال الشغب التي اوقعت اربعة قتلى، تفكر السلطات ايضا في فرض حظر التجول ولم يستبعد استخدام قوات الجيش في المستقبل. وكان كاميرون اعلن في مطلع الاسبوع نشر تعزيزات كبيرة من الشرطة كانت في البداية 16 الف جندي. وفي كلمة شديدة اللهجة قال كاميرون، الذي قطع اجازته الثلاثاء وعاد الى بريطانيا «انه اجرام بحت، لا اعذار له باي شكل كان» مضيفا «الامر لا يتعلق بالسياسية، ولا التظاهر بل بالسرقة والنهب». وتابع رئيس الوزراء ان مقتل رجل برصاص الشرطة الاسبوع الفائت في لندن «استخدمه غوغائيون انتهازيون ذريعة، في البدء في توتنهام «حي شمال العاصمة» ثم في لندن ولاحقا في مدن اخرى». وزاد كاميرون قائلا «قبل عام من موعد دورة الالعاب الاولمبية علينا ان نثبت بان بريطانيا ليست دولة تخرب بل دولة تعمر ولا تستسلم، دولة تواجه ولا تنظر الى الوراء بل دائما الى الامام». وستتجاوز كلفة اعمال العنف عتبة 225 مليون يورو بحسب الارقام المؤقتة التي وضعتها الخميس شركات التأمين. واستمرت الشرطة التي اعتقلت في كافة انحاء البلاد اكثر من 1200 شخص حتى يوم الخميس في توقيف من وصفتهم بمشاغبين. وفي لندن نفذت منذ ساعات الفجر الاولى مداهمات تطبيقا لحوالى 100 مذكرة توقيف بحسب اسكتلنديارد. وبقيت المحاكم مفتوحة طوال الليل للتمكن من محاكمة العدد الكبير من الاشخاص الذين مثلوا امامها. ومن المهازل بحسب البعض، أنه مثل امام محكمة في لندن فتى في ال11 من العمر اقر بسرقة حاوية نفايات قيمتها 57 يورو، وهو ما يشير إلى حجم مأساة فئة كبيرة من الشعب البريطاني. اغلاق شبكات التواصل الاجتماعي إضافة إلى الزج بالاف من رجال الشرطة ورفع استعداد قوات الجيش للتدخل ضد المتظاهرين، تدرس الحكومة البريطانية امكانية اغلاق شبكات التواصل الاجتماعي على الانترنت ووقف ارسال الرسائل النصية عبر الهواتف اثناء الاضطرابات الاجتماعية. وقال رئيس الوزراء ديفيد كاميرون ان اجهزة المخابرات والشرطة تدرس اذا كان «صحيحا وممكنا» قطع الاتصال عمن يدبرون اعمال عنف. واصدرت شرطة العاصمة البريطانية تحذيرا من نشر الشائعات التي تثير الاضطرابات عبر مواقع التواصل الاجتماعي على الانترنت. وكانت الشرطة في انحاء اخرى من بريطانيا قد اعتقلت عددا من الاشخاص لبثهم رسائل تحريض تثير اعمال الشغب عبر موقع تويتر على الانترنت ومن خلال رسائل بلاكبيري. وقال بيان شرطة لندن: «لدينا علم بالشائعات على شبكات التواصل الاجتماعي وهي غير صحيحة وتستهدف زيادة التوتر بين طوائف المجتمع». وحثت الشرطة الجماهير على عدم استخدام الاحداث الاخيرة كذريعة لخلق مزيد من الاضطرابات. رفض الاعتراف بالفشل أقوال كاميرون حول أسباب إضطرابات أغسطس، تعرضت لنقد قوي وأكد معلقون وسياسيون أن رئيس الحكومة البريطانية يتعلق باساليب الكذب ويرفض الاعتراف بفشل سياسته. فهذه الإضطرابات ليست سوى أمتداد لحركة غليان شعبي. ففي نهاية شهر مارس 2011 خرج عشرات آلاف البريطانيين للإحتجاج على سياسة الحكومة الاقتصادية فقد نزل البريطانيون يوم السبت 26 مارس إلى شوارع لندن احتجاجا على خطط الحكومة التقشفية التي تشمل خفض الإنفاق في قطاع الخدمات العامة. وضمت المظاهرات التي نظمها اتحاد النقابات المهنية مدرسين وموظفين وطلابا وشرائح أخرى من المجتمع البريطاني، طالبت بإيجاد فرص عمل وتحقيق النمو والعدالة. هذه المظاهرات شكلت في حينها الأكبر في بريطانيا منذ المظاهرات المناوئة للحرب على العراق عام 2003، كما هي الأكبر ضد خطط خفض الإنفاق لحكومة الائتلاف التي جاءت إلى السلطة في مايو عام 2010. اتحاد النقابات قدر عدد المتظاهرين بأربعمائة ألف متظاهر بينما رفضت الشرطة إعطاء أي تقديرات. وقد انتهت المظاهرة عند الهايد بارك وتحدث العديد من الشخصيات إلى المتظاهرين ومن بينهم إيد ميليباند زعيم حزب العمال المعارض الذي استحضر تجارب منظمات مناهضة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا ودعاة الحقوق المدنية في الولاياتالمتحدة، في محاولة لشحذ همم المتظاهرين. وقال ميليباند مخاطبا المتظاهرين «هذه الحكومة سوف تقول إن هذه المظاهرة هي مظاهرة الأقلية». ثم أكمل مخاطبا رئيس الوزراء قائلا «ديفد كاميرون، لقد أردت مجتمعا كبيرا، هذا هو المجتمع الكبير». «انفجار جيل ضائع» يوم 9 أغسطس وصف خبير بريطاني في الشئون الاجتماعية أعمال الشغب التي تشهدها العاصمة لندن بأنها «انفجار جيل ضائع». وقال مدير مركز العدالة الاجتماعية في لندن ، جافين بول، إن الأشخاص الذين يقومون بأعمال شغب في العاصمة هم «طبقة مفلسة في المجتمع البريطاني». وأضاف بول «هذا عمل أشخاص تعيش في فوضى وفقر وفقدان الأمل». وذكر الخبير أن الكثير من الأطفال والشباب الذين يشاركون في أعمال الشغب ينتمون إلى «جيل ضائع»، موضحا أن حياتهم عالة على الدولة في أحياء متدنية، مضيفا أن عصابات الشوارع جزء من حياتهم اليومية. وأضاف بول أن الكثير من مثيري الشغب لم يعيشوا في منزل أسرة مستقرة، وقال «إنهم يعكسون الفوضى المحيطة بهم في المنزل على الرأي العام... المجتمع تخلى عن هؤلاء الناس في تلك المناطق أكثر من مرة... يتعين علينا أن ندرك أن هذه الفوضى أظهرت جزءا مفلسا من مجتمعنا مجردا تماما من أي قيم أو مسئوليات نتوقعها من مواطنين». تحسن حالة الأغنياء 100 مرة على عكس هذا الموقف الذي ركز اللائمة على المتظاهرين دعت صحيفة «ذي غارديان» الأطراف التي أدانت احتجاجات لندن للعودة عاما إلى الوراء ومراجعة حساباتها، وقالت إن البلاد عرفت بدء الاحتجاجات منذ مجيء التحالف الحاكم إلى السلطة، وهذا بعد إجراءات التقشف التي اتخذتها الحكومة رغم علمها بأنها مقبلة على مقامرة وأن سياستها ستقود المملكة المتحدة إلى اضطرابات لم تعرفها منذ 30 عاما. وأوضحت الصحيفة أن سياسة الحكومة في سنة 2010 كشفت بجلاء وجود انقسام بين مستفيدين ومحرومين بالمعنى الدقيق للكلمتين، لكن الاحتجاجات الاجتماعية كشفت حجما أعمق، ويتعلق بسلوك الشرطة ضد السود والأقليات حيث لم تتردد في استخدام الرصاص. كما أظهرت الصحيفة أن ضاحية توتنهام تسجل رابع مستوى لفقر الأطفال في لندن ونسبة بطالة تقدر بضعف المستوى الوطني، حيث لا يوجد سوى منصب عمل واحد لكل 54 شخصا فيها. وأكدت الصحيفة أن ما جرى يظهر صورة أكبر، فأغنياء البلد الذين يمثلون 10 في المائة تحسنت أوضاعهم 100 مرة أكثر من تحسن أحوال أشد الناس فقرا، حيث يرتكز السلوك الاستهلاكي على الديون الشخصية منذ سنوات كحل لتعثر الاقتصاد. ووفقا لمنظمة التعاون الاقتصادي فإن الحراك الاجتماعي في المملكة المتحدة هو الأسوأ مقارنة بأي دولة متقدمة أخرى. ومن جهتها تطرقت صحيفة ذي إندبندنت لأعمال الشغب التي تشهدها لندن، فقالت إنه يجب استخلاص الدروس مما حدث، خاصة أن الأضواء تركزت على سلوك الشرطة. وأوضحت الصحيفة أنه يسود تاريخيا في عدة مناطق من لندن جو من عدم الثقة بالشرطة التي استخدمت تقارير مزيفة عام 2005 عندما زعمت أن البرازيلي جان تشارلز دومينيزيس هرب من رجال الشرطة، كما أنكرت أن بائع الصحف إيان توملينسون الذي مات عام 2009 دفعه أحد ضباط الشرطة، ولم تعترف بالحقيقة إلا بعد عرض شريط فيديو يصف الحادث. وأكدت أن محاولات تتبع موجة الفوضى والحرمان والتهميش الاجتماعي للشباب داخل المدن في بريطانيا تحتاج إلى التعامل معها بحذر، وأن انعدام الفرص الاقتصادية في المدن الداخلية مشكلة يجب أن يعالجها السياسيون والمسؤولون المحليون، ومن الخطأ حصر العلاقة بين هذا السخط وتفشي أعمال عنف محددة من النوع الذي انفجر في الأيام الأخيرة. وكررت الصحيفة تأكيدها أن الرغبة في استخلاص الدروس مفهومة ومناسبة، ولكن يجب الحذر من البناء على معطيات خاطئة قبل معرفة الحقائق كاملة. وتصدر عنوان بالبنط العريض «مجتمعنا المريض» الصفحة الأولى لصحيفة «الدايلي تلغراف» في عددها الصادر يوم الخميس 11 أغسطس والذي تحدث كاتبه اندرو جيليغان عن محدثي الشغب قائلا إنهم «كانوا كما قال لنا البعض من الطبقة الأكثر فقرا في بريطانيا لكننا فوجئنا في المحاكم بأن منهم طلبة جامعات، وابنة رجل أعمال ثري وطفل في الحادية عشرة من العمر». ويضيف: «هنا في قاعات المحاكم نرى المرض الذي ينخر المجتمع البريطاني». الأسباب الحقيقية يلاحظ أن غالبية من المحللين في الغرب وخاصة في بريطانيا والولاياتالمتحدة تجنبوا ربط الإضطرابات بوجود نظام سياسي وإقتصادي رفض التطور وأصبح متجاوزا. فالذين يتحدثون عن الديمقراطية ينسون أنه إذا كان الرئيس الأمريكي مثلا ينتخب لمدتين فقط أي ثمان سنوات في المجموع فإن الرئيس الذي يخلفه لا يأتي إلا بتغييرات هامشية على السياسة العامة في البلاد لأن هناك مركبا صناعيا عسكريا هو الذي يحدد خطوط السياسة، والرئيس ليس سوى واجهة. زيادة على ذلك فإنه لا توجد قيود على مدة العضوية في الكونغرس الأمريكي، هناك من يبقى منتخبا مدى الحياة أو لعدة عقود. في مقال بصحيفة واشنطن بوست الأمريكية أكدت الكاتبة آن آبلباوم صعوبة معرفة الأسباب الحقيقية للاضطرابات التي عرفتها بريطانيا، وقالت إن مطالعة الصحف تقدم حزمة من الأسباب، فصحيفة ديلي تلغراف التي تنتمي إلى يمين الوسط تقول إن الاضطرابات اندلعت بسبب ضعف وجبن الشرطة وغياب الآباء والاعتماد على مزايا الرفاه الاجتماعي والتعدد الثقافي والتسامح مع العصابات في المدارس. أما قراءة صحيفة غارديان، وهي من يسار الوسط، فتقول إن وحشية الشرطة والتهميش الاجتماعي وتخفيض مخصصات الرفاه الاجتماعي واتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء هي سبب الاضطرابات. كما أن أطرافا أخرى مقتنعة بأن ارتفاع مستويات الهجرة هو السبب، بينما هناك من يرى أن المشكلة تكمن في عدم التسامح البريطاني مع المهاجرين والأقليات. وأكدت الكاتبة أن هناك سببا لهذا التناقض، فالمتظاهرون لم يرفعوا شعارا، ولم يعلنوا احتجاجهم على سياسة حكومية محددة، ولم يسعوا لإعلان آرائهم، بل تخفوا عن الكاميرات والصحفيين، وبالتالي أصبحوا أشبه بنقطة حبر في أحد اختبارات رورشاكس النفسية: الجميع يرى فيهم القضية السياسية التي تهمه أكثر، سواء كانت موضوع الاعتماد على الرفاه الاجتماعي، أو تخفيضات الميزانية، أو تراجع التعليم العام أو ما أراه قناعة شخصية مفضلة لدي وهي صعود الثقافة العامة المبتذلة وغير الأخلاقية. وأوضحت الكاتبة أنها لم تتطرق لباقي الأسباب الممكنة الأخرى والتي تحتاج تحقيقا حتى لو لم تندلع هذه الاحتجاجات، لأن نظام الرفاه الاجتماعي أنتج جيلا يعتمد على الحكومة بالكامل ويسعى إلى المزيد، كما أن ضعف النظام التعليمي ترك خمس المراهقين البريطانيين أميين وظيفيا. وأضافت أن بطء الاقتصاد يعني أن غياب التوظيف سيطول وبالتالي استمرار البقاء في الهامش، كما أن حضور كبار أثرياء العالم في لندن يبين أن المدينة تعاني من هوة اقتصادية غير عادية في بلد متقدم. وكشفت أيضا أن المؤسسات التقليدية وهي النظام المدرسي والكنائس وحتى «بي بي سي» فقدت منذ زمن طويل قدرتها على نقل القيم القديمة، وسط موجة من الفضائح ضربت مؤخرا البنوك والبرلمان والإعلام والشرطة. وعادت الكاتبة بالذاكرة إلى الحريق الضخم الذي تعرضت له لندن عام 1666، وقالت إنه رغم ما تقوله الأساطير فقد كان هناك نهب، وحتى أثناء غارات الألمان في الحرب العالمية الثانية كان هناك نهب أيضا. وختمت مقالها بالقول إن التقاء مجموعة غريبة من الظروف: وجود غوغاء غاضبين بسبب جريمة قتل ارتكبتها الشرطة، وتوفر الهواتف الذكية بين المحرومين على نطاق واسع ومدهش سمح لهم بالتنسيق وتجديد غضبهم. وقالت «حذار من التعميمات السياسية في أعقاب أعمال الشغب هذه، فنحن لا نعرف ما إذا كنا نشهد مجرد ظاهرة جديدة، أو موجة ذات قدرة تكنولوجية لواحدة من الممارسات القديمة جدا». الاقتصاد الرأسمالي كتب استاذ جامعي عربي مع بداية الأزمة الإقتصادية العالمية سنة 2008 «تحاول الرأسمالية وهي في ذروة جموحها واندفاعها وراء الربح والاستغلال والسيطرة على موارد وأسواق العالم، وتحديد مسارات واتجاهات التطور العام لصالحها، اكتشاف وتطبيق آليات وأساليب للربح والنهب السريعين والشاملين. ومن هذه الأساليب محاولتها التوصل إلى إقامة علاقة طبيعية، بين الاقتصاد المالي الورقي «ألافتراضي أو الوهمي»، وهو يتحرك كرافعة استعراضية هائلة، ودليل على سعة ومتانة وسرعة الاقتصاد الرأسمالي، تعمل تحت أضواء الإعلام الساطعة، في المكاتب الفاخرة والأنيقة، وبين الاقتصاد الحقيقي «الريع المالي والريع الإنتاجي»، وهي عملية وهمية وخطيرة إلى أبعد الحدود، في حالة فشلها وانكشافها، لأن الاقتصاد الورقي لا يعبر عن الاقتصاد الفعلي، ولا يرتبط به. كما حصل أخيرا، وأدى إلى سقوط الإمبراطورية المالية الأمريكية، والقلاع المالية الحصينة، من ثم سقوط النموذج الرأسمالي الأمريكي وتوابعه. مما تطلب تدخل شامل من قبل الدولة، وفرض نوع من الرقابة والمراجعة، ومحاولة إيقاف التدهور بواسطة ضخ الأموال الطائلة لإنقاذ المؤسسات المالية المنهارة، وإنقاذ الموقف وإيقاف التدهور ومنع حصول الكارثة النهائية. وهذه الإجراءات الصارمة هي خطوط الدفاع الأخيرة والطارئة، لإنقاذ وتجديد النظام الرأسمالي، وهي تتعارض مع نظريات الاقتصاد الحر الذي اعتمدته وبشرت به النيوليبرالة في النموذج الأمريكي على الأقل، الذي يرفض تدخل الدولة، ويطالبها بالتراجع والتخلي عن وظائفها. مع ذلك فلا أحد يعرف مدى فائدة أساليب التدخل والمساعدة المتبعة في علاج أزمة الانهيار المالي العالمية الحالية، لأن لا أحد يعرف حجم وعمق المشكلة الحقيقي بعد. الرأسمالية تنتج أزماتها الدورية من داخلها، بسبب طابعها الذاتي وقوانينها الخاصة، الكامنة في أسلوب الإنتاج الرأسمالي، القائم على الاستغلال والنهب والربح، وما ينتج عن ذلك من مشاكل وكوارث تهدد الإنسان والبيئة والحياة الاجتماعية والطبيعية، وتلك هي المعضلة الرئيسية في وجود وماهية الرأسمالية، التي تحاول بيأس إخفاءها أو تخفيفها على الأقل. لكنها حقيقة موضوعية، تعمل بشكل مستقل بعيدا عن نوايا وأمنيات أصحاب رأس المال أو أعداءهم. فالماركسية مثلاً لم تختلق الصراع الطبقي، إنما اكتشفت قوانينه وآلياته، وتمسكت به، كمحرك اجتماعي هائل. بينما هو حقيقة موضوعية مستقلة، قائمة بذاتها، ناتجة عن الاستغلال الطبقي والتباين الطبقي الذي ينتج عنه صراعا طبقيا لا يمكن إخفاءه أو التستر عليه أو لفلفته. «وهذا الجوهر الحقيقي للرأسمالية والاستغلال يمثل الطابع التاريخي الرئيسي لها، وعلى هذا الأساس أنقسم وينقسم العالم والمجتمع، إلى أغنياء وفقراء، وأنتج مشاكل الجوع والفقر والأزمات والحروب والخراب الكوني». «تحاول الرأسمالية في مراحل معينة أن تظلل قطاعات واسعة من الناس، بواسطة الدعاية الكاذبة والملفقة، حول طبيعة الرأسمالية التقدمية والحضارية، وبواسطة مقولات وأفكار وأساليب دعائية هائلة ومزيفة، تستعيرها من النظريات الأخرى، وتسوقها بواسطة بعض المفكرين. لكن اللعبة تنكشف دائماً في نهاية المطاف، بسبب الحقائق والنتائج الرهيبة التي يتعرض لها البشر في أرجاء كوكبنا الأرضي». أمريكا تنهار قال المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي في مقال نشره بموقع «تروث آوت دوت أورغ» إن مؤشرات انهيار أمريكا بدأت منذ بلوغ أوج القوة بعد الحرب العالمية الثانية، وتلاها التفوق الملحوظ في المرحلة التي تلت حرب الخليج الثانية في التسعينيات مع أن ذلك كان مجرد خداع للذات. وأضاف إن المشهد قادم لإرعاب حتى المنظمين، فالشركات التي وضعت المتشددين في مراكز القرار هي الآن قلقة من أنهم يسقطون الصرح الذي بنته، وتفقد امتيازاتها والدولة القوية التي تخدم مصالحها. وأوضح تشومسكي أن طغيان الشركات على السياسة والمجتمع، وهو ذو تأثير مالي في الغالب، بلغ حدا جعل الحزبين الديمقراطي والجمهوري اللذين بالكاد يشبهان الأحزاب السياسية أبعد ما يمكن عن حق المجتمع بشأن القضايا الرئيسية قيد المناقشة. وذكر إن المشكلة الأولى التي تهم المجتمع هي البطالة، وحلها ممكن بتحفيز حكومي كبير، أكبر مما تم عمله حتى الآن، والتي بالكاد قابلت الانخفاض في الإنفاق الحكومي والمحلي، على الرغم من أنها مبادرة محدودة ربما أنقذت الملايين من فرص العمل. وبالنسبة للمؤسسات المالية فإن أهم ما يشغلها هو العجز، وهو ما يتردد على الألسنة، وتؤيد نسبة كبيرة من السكان مواجهة العجز بفرض الضرائب على الأغنياء جدا، ووفق استطلاع أجرته كل من واشنطن بوست وأي بي سي نيوز فقد وافق على ذلك 72 في المائة مقابل رفض 27 في المائة، بينما يعارض 69 في المائة من السكان خفض دعم النظام الطبي ويعارض 78 في المائة خفض دعم الرعاية الصحية. وتحدث تشومسكي عن استطلاع آخر أجراه «برنامج التوجه السياسي الدولي». وقال مدير البرنامج ستيفن كول «من الواضح أن كلا من البيت الأبيض والجمهوريين في مجلس النواب يوجدان خارج اهتمامات المواطنين فيما يتعلق بالميزانية». وقال إن الاستطلاع يكشف انقساما عميقا «فأكبر فرق في الإنفاق هو أن الجمهور يفضل إجراء تخفيضات كبيرة في الإنفاق العسكري، في حين يميل البيت الأبيض ومجلس النواب إلى زيادات متواضعة. كما يفضل الجمهور مزيدا من الإنفاق في التدريب على العمل والتعليم ومراقبة التلوث أكثر مما فعل البيت الأبيض أو مجلس النواب». وأضاف تشومسكي أن الحل الوسط «النهائي» أو بعبارة أدق الاستسلام لليمين المتطرف بات من شبه المؤكد أن يؤدي لتباطؤ النمو وتضرر الجميع على المدى الطويل باستثناء الأغنياء والشركات وهما الطرفان اللذان حققا أرباحا قياسية. وذكر إن الكونغرس يملك أسلحة أخرى في معركته ضد أجيال المستقبل، فبسبب مواجهة المعارضة الجمهورية لحماية البيئة، أهملت أميركان إيلكتريك باور «وهي شركة طاقة كبيرة» جهودا وطنية بارزة لتصفية غاز ثاني أكسيد الكربون من مصنع للطاقة العاملة بالفحم، وهو ما وجه ضربة لجهود كبح جماح الانبعاثات المسؤولة عن ظاهرة الاحتباس الحراري وفق ما ذكرت صحيفة نيويورك تايمز. وأضاف تشومسكي إن هذه الإجراءات ليست وليدة اليوم بل تعود إلى فترة السبعينيات عندما كانت السياسة الاقتصادية الوطنية تخضع لتحولات كبرى، منهية ما كان يسمى «العصر الذهبي» لرأسمالية الدولة. وأوضح أن تركيز الثروة أنتج قوة سياسية أكبر، وهو ما سرَع دائرة مغلقة جهنمية قادت إلى تجمع كمية كبيرة من الثروة بيد 1 في المائة من السكان، وهم أساسا المديرون التنفيذيون لكبار الشركات، بينما استقرت مداخيل الأغلبية. ومن جهة أخرى تضخمت تكاليف انتخاب الحزبين بشكل فلكي وهو ما وضعهما في جيوب الشركات، أما ما بقي من الديمقراطية السياسية فقد قوضه لجوء الطرفين إلى بيع المناصب القيادية بالمزاد في الكونغرس، كما يقول توماس فيرغيسون في فايننشال تايمز. نحو الهاوية كتب فرانسيس فوكوياما صاحب نظرية نهاية التاريخ والأستاذ في الاقتصاد السياسي الدولي في كلية جونز هوبكنز للدراسات الدولية المتقدمة في مقال نشر في مجلة نيوزويك الامريكية الاسبوعية «ان رأسمالية رعاة البقر أي الاقتصاد الأمريكي يهدد بجر بقية العالم إلى الهاوية معه. والأسوأ من ذلك أن الخطأ يقع على النموذج الأمريكي أما الديموقراطية فقد تلطخت سمعتها قبل ذلك. ويرى فوكوياما أن نمو الاقتصاد الأمريكي بالسرعة نفسها في عهدي كلينتون وريغان لم يزعزع ثقة المحافظين بأن التخفيضات الضريبية هي مفتاح النمو. والأهم من ذلك أن العولمة أخفت عيوب هذا التفكير طوال عقود. بدا أن الأجانب مستعدون لاقتناء الدولارات الأمريكية إلى ما لا نهاية، مما أتاح للحكومة الأمريكية أن تعاني عجزا ماليا وتستمر في التمتع بمعدل نمو عال، وهو أمر لا يمكن لأي بلد نام مجاراته. كما بعض البلدان مثل تايلاند وكوريا الجنوبية امتثلت للنصائح والضغوط الأمريكية، وحررت أسواقها المالية في أوائل تسعينات القرن الماضي. وبدأ الكثير من الأموال بالتدفق بسرعة إلى اقتصاداتها، مما أدى إلى فقاعة سببها المضاربة، لتعود هذه الأموال وتسحب منها عند أول مؤشر إلى حدوث مشكلة. وايضا ازداد التفاوت الاجتماعي في الولاياتالمتحدة خلال العقد الماضي، لأن الأرباح المتأتية من النمو الاقتصادي ذهبت للأمريكيين الأكثر ثراء والأكثر تعلما بشكل غير متكافئ، في حين أن مداخيل الطبقة العاملة شهدت ركودا. ويضيف فوكوياما: المشكلة الآن هي أنه من خلال استغلال الديموقراطية لتبرير حرب العراق، أوحت إدارة بوش للكثيرين أن «الديموقراطية» هي كلمة السر للتدخل العسكري وتغيير الأنظمة حيث الشرق الأوسط بشكل خاص بمنزلة حقل ألغام لأي إدارة أمريكية. ويرى فوكوياما ان امريكا عالميا، لن تستمتع بموقعها الاستبدادي الذي احتلته حتى الآن، حيث ستتضاءل قدرة أمريكا على تحديد مسار الاقتصاد العالمي وكذلك ستتضاءل مواردها المالية. وفي مناطق كثيرة من العالم، ستحظى الأفكار والمشورة الأمريكية وحتى المساعدات الأمريكية باستقبال أقل حفاوة مما هو عليه حاليا. ويختم فكوياما كلامه بالقول إن الاختبار الأهم أمام النموذج الأمريكي سيتمثل في قدرته على إعادة صياغة نفسه من جديد. وإيجاد المنتج المناسب الذي تحتاج إليه الأسواق. سيكون الطريق صعبا أمام الديموقراطية الأمريكية.